سهام القحطاني
منذ ولادة الإِنسان الأول وحتى اليوم وإلى ما لا نهاية يميل كل منّا إلى سماع حكاية الأبطال ومع الأيام تطور السماع إلى رؤية ثم تقمص واحتذاء، هذا الشغف برمزيات البطل الذي أظنه أبدي لا بد أن له ما يبرر استدامته عبر العصور مهما اختلف شكل البطل، فالهوس بالبطل الثيمة التي تكاد أن تكون وحيدة محمية عن أي توصيف بالرجعية أو التخلف، ولا شك أن لهذه الخصوصية المحمية أسبابًا تبررها.
فكرة البطل في ذاتها هي «فكرة قيمية» أو نستطيع أن نقول إنها فكرة تسعى إلى ترسيخ السلوك القيمي، وهذا الأمر هو الذي احتفظ لفكرة البطل عبر التاريخ بالرواج الشعبي الذي يصل لحد التقديس عند الشعوب الذي يتجاوز الخطوط الفاصلة للغة واللون والعرق.
ففكرة البطل ليست قاصرة على الشعوب ذات الفكر والثقافة الوجدانيتين بل تتميز بطابع إِنساني شمولي، مع اختلاف ألوان وأشكال الأطر التي تٌبروز ملامح ذلك البطل، هذا الطابع الذي جعل فيلم مثل البطل الخارق كابتن شازام يتصدر أعلى إيرادات في السينما الأمريكية؛ لأن الهوس برمزية البطل ليس قاصرًا على المجتمعات المتخلفة، بل أحسب أن المجتمع كلما ارتفع مستواه الحضاري زادت حاجته إلى تلك الرمزية.
منذ بدء التاريخ وعندما أدرك الإِنسان الأول طبيعته الأرضية ومع ظهور التنافسية التي أنتجت منحى الصراع وممثلاته، برزت ثنائية «القوي والضعيف» ولجأ الضعيف إلى البحث عن شخصية تحميه من القوي المغتصب ويدافع عن حقوقه، ومن هنا برزت القوة العادلة كمعيار تجذيري لنشأة رمزية البطل، وبذلك أُضيفت «القوة» إلى الخير لتشكيل شخصية البطل، ليصبحا -الخير والقوة- متلازمة حتمية لأي بطل.
كانت حكاية «هابيل وقابيل» النموذج الأول «لحكاية البطل» في رمزيتها البسيطة التي تؤرخ «لثنائية الخير والشر» هابيل «رمز البطل في نسخته القيمية» الصالح والنزيه والمسالم، وقابيل رمز الشر والغرور والحقد.
صحيح أن قصة هابيل وقابيل هي رمزية غالبًا ما تُبرهن عن ثنائية الخير والشر، لكن رمزية البطولة في هذه التنائية تنطلق من «الخير»، ليُضاف الخير إلى تركيب جذر رمزية بجوار القوة، ليصبحا -الخير والقوة- متلازمة حتمية لأي بطل.
ورغم تطور ملامح البطل عبر التاريخ ظلت تلك المتلازمة هي الإطار الخاص بصورة البطل، لكن ذلك الثبات كان محصورًا في قيمة الإطار ورمزيته وليس في شكله ووضعيته.
وتفكيك أحادية الإطار كان له أسبابه كما كانت له نتائجه، مما اخضع متلازمتا البطولة لإيديولوجية المتلقي، وبذلك تعرضت صورة البطل للنسبية، لتختلف مقاييس تلك الصورة من شعب لآخر، اختلاف قد يصل أحيانًا لحدّ التضاد، ليصبح ذات الشخصية بطلاً عند شعب ومجرمًا عند شعب آخر، فهتلر هو رمزية للبطل الخالد عند الألمان في حين أنه رمزية للمجرم عند اليهود، و المحرك الأيديولوجي هو في نهاية المطاف من يحدد التوصيف الختامي للمثال.
وليس المحرك الأيديولوجي هو المقياس الوحيد لإقرار التوصيف الختامي للبطل، بل هناك مستوى الوعي وكيفية تطوره، طبيعة الظرف الحضاري، الإمكانية المفتوحة للعلاقة المضافة، اختلاف معايير تقدير الذات الخاصة، صور الصراع بين الشعوب.
إن تعلقنا كأفراد عاديين بالبطل هو تعلق في أساسه بالرمزية وليس بالشخصية، لأنه يحقق لذواتنا تقديرًا نوعيًا، من خلال الاندماج التمثيلي لتلك الرمزية لإعادة خلق ذواتنا من خلال تلك الرمزية، إن هذه الإزاحة اللا شعورية وأحيانًا تكون مقصودة من قِبل المتلقي هي التي تفسر لنا «التقليد المادي في اللبس والشكل والسلوك» لمن يمثل رمزية البطل؛لأن التقليد هو الصورة الحسية لإزاحة الأنا المفروض وإعادة خلقها من خلال الاندماج مع الرمزيات الممثلة للبطل.
وهذا التقمّص لرمزية البطل لا يقتصر على المراهقين كما نعتقد بل الكل يعيش داخل تلك الدائرة، لكن نسبة وضوح ذلك التقمص هو الذي يقل أو يزيد وفق نضوج تجربة المرء ومدى تخلصه من سلطة الأثر وقوته في صناعة أثر مضاف لأثر الرمزية.
لكل عصر بطل يشبه عصره بوعيه وغاياته ومعاييره وقياساته وحتى نوع الأحلام والطموح فصورة البطل تتطور وفق تطور ذهنية المتلقي، وذهنية المتلقي بدورها تتطور وفق ظرفيات العصر، وهذه المسألة تضعنا أمام سؤال من يصنع الآخر، هل البطل هو الذي يصنع خيال المتلقي لرمزية البطل أم أن المتلقي هو الذي يفرض معاييره الخاصة على البطل لصناعة تلك معايير تلك الرمزية؟
ولعل الإجابة هنا ترتبط بخصوصية الطبيعة البشرية التي تميل إلى الكمال أي القدرة على امتلاك فعل الخير ومحاربة الشر، وتلك المحاربة تعني بالضرورة القدرة على امتلاك القوة. لأن القوة مع الشر لا تساوي بطولة بل الخير مع القوة هما من يحققان رمزية البطولة.
إذن ذهن المتلقي هو الصانع الأول لموصفات البطل لأنه كان يحتاج من يحقق له الحماية دون استغلاله وفي ذات الوقت يحقق لنفسه تقدير الذات بالإنابة الحاصلة على التوحد مع رمزية البطل من خلال ترحيل الذات للاندماج مع ذات البطل.
ومع تطور وأهمية وقيمة تلك الرمزية، انتقلت ثيمة تلك الرمزية إلى العقل الدرامي، وهذا الانتقال نقل رمزية البطل من العادية إلى الأسطورة «البطل الخارق» الذي لا يُهزم، والدراما استطاعت أن تضيف إلى متلازمة القوة والخير جذر الألوهية، وهذا الجذر الإضافي حول البطل من مرتبة العادي إلى مرتبة الأسطورة الإِنسان الذي يجمع بين صفات الإله وصفات الإِنسان.
ثم تطورت تلك الرمزية لتخرج من زيّه الدرامي والفلسفي إلى بعد فكري تبلور هذا البعد في نظرية «الإِنسان الأعلى لنيتشه» هذه النظرية التي اتبنى في ضوئها أشهر أيقونات البطل الخارق في العصر الحديث بدءًا من السوبرمان وصولاً إلى الكابتن شازام.