د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
في الأسبوع الماضي كان جزء أثير وفير من تاريخنا الوطني على موعد مع احتفائية مميزة وطوق معرفي آخر أضافه مواطن عشق التاريخ الوطني فتفيأ منه كيف يشاء؛ فالتقط بعض مناراته وصعد بها ليجلب لها الحقائق ويمنحنا يقينًا جديدًا بعراقة المكان وتجلياته حين «تعد المكارم» فشهدنا بما علمنا حينما استمعنا واستمتعنا بمناقشة أكاديمية لأطروحة علمية في علياء المعرفة التاريخية لحيازة درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث للدكتور راشد بن عساكر وقد كان الموضوع مكينا (الحياة العلمية في مدينة الرياض من1240 -1309 دراسة تاريخية) وفيها وُفق الباحثُ لاختيار الموضوع بمؤثراته الزمنية والمكانية حيث الدولة السعودية الثانية واتخاذ الرياض عاصمة لها؛ وتلك الدولة طرقتْ شيئًا من ممكنات الحضارة من خلال المعرفة العلمية المحلية دونما منهجية وصول مرسومة إلا من محبة وولاء للأرض واستنبات للقيم حتى أزهرت فكانت تلك الحقبة هي الجسر الذي انتقلت فيها الدولة السعودية من طورها الأول «التأسيس» إلى الحياة الحديثة، ولقد انتشرت في تلك الحقبة الممتدة علوم في الجوامع والمساجد ثم وافاهها رافد الكتاتيب التي كان القائمون عليها من الرجال والنساء على حد سواء؛ وبسقت الرحلات العلمية الصادقة من أجل التعلم التي كان للواقع الاقتصادي دافع نحوها أيضًا.
وفي فضاءات المجتمع النجدي آنذاك منابر تعبير وجدانية بفنون القول المعروفة آنذاك؛ ومن اللافت أن الشعر حينذاك شهد تحولاً من الفصحى للعامية له أسبابه التي ذكرها الباحث، ولقد أفاض الدكتور العساكر باستدلالات وافرة عندما ربط كل الحراك المجتمعي آنذاك في العلوم والاقتصاد والتعاملات بالمنطلقات الشرعية وأنها المحرك الإعلامي والإعلاني لقيم المجتمع ونشاطاته آنذاك، وأفاض الباحث أيضًا حديثًا غزيرًا عن القضاء والقضاة في مدينة الرياض في تلك الحقبة حيث أحال ذلك الظهور الوافر إلى مخرجات الحياة العلمية التي صنعها المجتمع دونما وزارة أو هيئة رسمية؛ وقد اتكأ الباحث على حُزم من الوثائق لتثبيت أقواله وتأكيد تحليلاته أربتْ عن الثمانين وثيقة، وقد برزتْ شخصية الباحث في كل ثنايا الدراسة ورؤاه عرضًا وتحليلاً وتبويبا؛ ويُحمدُ للباحث بعث الروح في جملة من الوثائق في هذا المجال وإبرازها؛ وكانت وقفات الباحث عند محطات الرحلات العلمية صيد ثمين آخر لتاريخ بلادنا للدخول للمثاقفة والمنفعة؛ وعندما ملك الدكتور «العساكر» أدوات ممنهجة لرؤية التحولات وتطورها في مجتمع الرياض العلمي في ذلك العهد فإنه أعلن من خلالها اجتياز بلادنا لمراحل البناء الحضاري حتى عهدنا الحديث الشامخ، وانسيابية التحول حتى ميلاده الكبير في عهدنا الحديث، ومن مفاصل الدراسة ازددنا يقينًا بأن تاريخنا الوطني لم يبنَ على الصدف والمواقف العابرة؛ إنما هو صناعة مجد واجتماع قلوب وتوحيد همم؛ كما أن تاريخنا الوطني ليس مجرد صفحات من السرد المدعم بالوثائق والأسانيد، وليس شبيهًا بمعارض الصور الثابتة إنما هو أقرب بشريط سينمائي عن حياة دولة عظيمة اكتملتْ ملامحها التفصيلية ملمحًا بعد ملمح حتى أصبحت كيانًا عملاقًا تخفق رآياته عاليًا.
والباحث الدكتور راشد بن عساكر من روّاد التسجيل التاريخي في بلادنا الذين رضعوا تاريخها؛ واعتبروه شيمة سرت فيهم مسرى أرواحهم؛ فرصدوا الكفاح وبحثوا بعمق في نقاط التنوير فاستضاءوا بها، وكتبوا بأسلوب توثيقي رصين؛ وكان منهجهم التعمق والاستقصاء لاضطلاعهم بواجبهم الوطني أيضًا؛ ولعل الجامعات الوطنية في حراكها البحثي الملزم تتبنّى حاضنة تُعنى بالتاريخ الوطني بحثًا ودراسة ونشرًا.
ودارة الملك عبدالعزيز صديقة معرفية زاخرة بالدراسات والوثائق التاريخية الوطنية فيمكن للجامعات استيراد الموضوعات التاريخية الوطنية من الدارة؛ وتقديمها للباحثين ليكون لدينا (عساكر تاريخ ) كُثر أمثال الدكتور راشد بن عساكر..
بوح لتاريخنا الوطني،،،،
«وإذا خامر الهوى قلب صبٍ
فعليه لكل عين دليلُ»