د. محمد عبدالله الخازم
عندما كنت صغيرًا لم أكن أعرف معنى الاحتفاء بيوم الميلاد. شببت وكبرت، وتوافرت فرص السفر لأقوام يقدرون هذا اليوم، ثم بعد ذلك أبناء وأصدقاء و(فيسبوك) يستعجلونه، كل عام. من يكبرني وبعض أقراني لم يتح لهم تسجيل تواريخ ميلادهم، أولئك جيل 1-7 الطيبين. لكن من حسن حظي أن والدي كان مهتمًّا بهذا الأمر حتى أنه شكَّل مرجعية للقرية في هذا الشأن؛ إذ كان لديه سِجل، يدوِّن فيه تواريخ القرية المهمة: المواليد، الزيجات، الوفيات.. وغيرها. لا أعلم دوافع وعيه بتوثيق تواريخ القرية في مجتمع قليل التعليم؟ ربما كان إحساسه بمسؤوليته بصفته يجيد بعض القراءة والكتابة، أو لوعيه المبكر بالتوثيق، وبخاصة أنه جرب السفر والاحتكاك بالآخرين مبكرًا في حياته!
أعود لعيد ميلادي (أبو عبدالله، صديق يعترض على تسميته بالعيد)، وقد تسابق المحبون بتذكيري به، ما بين سائِل عن العمر، ومُهنِّئ بأمنيات طيبة، ومتكرِّم بوردة أو كعكة لذيذة. يسألونني ماذا يعني لك بياض الشعر، وتموجه فوق الجبين؟ هل تشعر بإدبار الشباب؟ كيف تصف عامك أو عمرك المنصرم؟ وماذا تتمنى لعامك وأعوام العمر القادمة؟ لستُ أدري أي الأسئلة يستحق إخراجه للفضاء العام، وأيها أحتفظ به؟.. أيها أبرزه، صفحات السرور أم غصات الألم؟!
في البدء لستُ أراه الآن الاحتفاء؛ ما أفعله تهيئة لتكوين لم يكتمل، وما زلت متحفزًا ليوم ميلاد مأمول، أكثر فخامة. سأكتفي بوصف المشهد العام، أو جانب من ملامح رحلة العمر. الرحيل والفراق عنوان حياتي، حتى أنني فوجئت بإحصاء سريع - ساعدت فيه ابنتي - بأنني سكنت سبعة عشر منزلاً خلال ربع قرن، سبع مدن، ووظائف عدة مهنية وأكاديمية ودواوينية تنقلت فيها، ولا يزال الأفق ينبئ بالمزيد ما امتد بي العمر. المؤكد أن الرحيل والانتقال يمنحان خبرات، ويتيحان معارف جديدة، وكذلك هما يكرسان قدراتك على الفراق؛ لم تعد تأبه بقول كلمة «وداعًا».. أحيانًا تخبئ جرحك في ثناياها، وأحيانًا تقسو على الغير في فعلها.
الفراق له وجهان: وجه قوة تتمتع بها، ووجه وجع تكتمه في كل لحظة وداع لمن يستحق البقاء في عالمك؛ لذلك أجد رغبة في ذكرى يوم مولدي هذا أن تكون رسالتي هي التقدير لكل من فارقتهم، رغبة أو قسرًا، اختيارًا أو بحكم الظروف. الفراق ليس كُرهًا بالضرورة، ولا يقود للنسيان دائمًا.. لا أستطيع التخلي عن نفسي تمامًا، حتى وإن كانت فلسفتي هي كتمان لحظات الضعف، والسير في الدروب نحو الأمام دون التفاتات نحو الوراء. لا أندم ولا أعتذر كثيرًا، ولا أدعي نقاء حكمتي في الحياة. مقتنع بالحكمة: في النهاية ذاتك هي الأهم. لستُ مجبرًا على الارتباط ببقعة جغرافية أو بعلاقات بشرية لا تناسب روحك. ستقترب من روحك أكثر كلما كنت قادرًا على تجاوز الحواجز التي تتشكل داخلك.. فابحث عن روحك داخلك، وليس لدى الآخر..
شكرًا لكل مَن ذكّرني وهنَّأ بيوم ميلادي. شكرًا لوالدي الذي وثَّقه قبل خمسين سنة وبضع سنين فوقها..
تهنئة بقدوم الشهر الكريم.. إجازة قصيرة وأعود لكم بعد رمضان.