محمد جبر الحربي
بدأ الشاعر الكبير الأمير المُحِب، بدرُ الرياض كما أحِب، بدر بن عبد المحسن مسيرته الشعرية والفنية الثرية، متعددة الجوانب، بالحُب: «عطني المحبة» مع صوت الأرض طلال مداح، مروراً بسيلٍ من خزامى الأغاني الخالدة التي تطلبُ الحب، وتمنح الحب، عبر أصوات مبدعيها الكبار، وكانت، لعظمتها وفرادتها، قراراتُها الحب، ونوتاتُها العالية الحب، ولكلِّ قرارٍ من الحبِّ.. جوابٌ من الحبِّ أيضاً!
وإذا كان الحبُّ مطلباً وحاجةً وعلاجاً، ومنْحاً وعطاءً ورسالةً لدى البدر، فإنه استخدم الخيال العالي في أقصى مدى قد يجترحه خيال، والصور في أندر وأبهى الحلل، وليس الكلام المرصوف المكرور، لإيصال هذه الرسالة..
ولقد شدَّني ذلك، والّتفتُّ إليه مبكراً، عبر أغاني «ليلة تمرِّين»، و«زل الطرب»:
زل الطرب يا موجع الطارْ بالكفْ
شابتْ قوافي الليل نورْ الضحى لاحْ.
كانك تدقَّ القلب دقّكْ على الدفْ
عسى الضلوع توقِّيَ القلبْ لا طاحْ
نوركْ دعاني وعندك الشوفْ وقفْ
كنَّهْ فنارٍ لاحْ.. في عينْ ملاحْ.
وسرعان ما تجاوز البدر نفسه، عبر موجةٍ من الأغاني الخالدة التي حفظها الناس، ولا يتسع المجال لذكرها هنا، الأغاني ذات الصور المبهرة، الجديدة، الغريبة على الناس والمجتمع..
ولكنَّ السؤال هو: لمَ لمْ يرفضها الناس، والناسُ، والمجتمعات، خاصةً المحافظة منها، ترفضُ كلَّ جديد؟!
لعلَّ الجواب يكمنُ في قدراته الإبداعية، أسلوبه الخاص، وشخصيته الساحرة الجاذبة القادرة على الإقناع، وسلاسة تراكيبه، ما جعلها مستساغة لديهم، إلى أن عرفوه..
لقد تقبل الناس سهلَ بدرٍ الممتنع مُذْ عرفوا أن هذا هو البدر، وأن هذه هي بصمة البدر.. وعلامته الفارقة!
وقد توج هذه التجربة شاعر الرِّقَّةِ والعذوبةِ بالحب والسلام، وعلى طريقته كالعادة، بشعرٍ يليقُ باليونسكو، وباريس، والعالم، وذلك في أمسية «ناي» في اليونسكو.
وكانت أمسية إبداعية عربية تاريخية خالدة لا تنسى في عاصمة الحب والفن والجمال باريس، أدارتها «مسك»، وشباب وشابات «مسك»، بكل تفوق وحرفيةٍ واقتدار، ورسموا بوجودهم السعودي المبهج صورة جميلة للوطن، مع تلك الصور الشعرية الرائعة التي كانت تنهمر كالمطر، تارة بالعربية الأم بصوت من صاغها، وتارة بالفرنسية عبر الدكتورة المبدعة منيرة العامر، وتارة عبر الشاشة بالإنجليزية الملكية.
وكررتُ خالدة، لأن مضامينَ القصائد خالدة، فهي مضامين إنسانية شاملة، وهي إن خرجت من العيينة أو الدرعية أو الرياض مثلاً، فقد رسمت ملامح مماثلة، قد يتغنى بها إنسانٌ بسيطٌ على سواحل الأطلسي بضفتيه العربية أو الغربية، أو أيُّ عاشقٍ على الكرة الزرقاء.
ووالله إنني لم أشعر بالفخر كما شعرت في ليلة اليونسكو، ولا بالدهشة، وكان مقعدي في الصف الثالث، حاضراً مع الزملاء، كما شعرتُ،وبدون مبالغةٍ، بدهشةِ طفلٍ في الصف الثالث يستمع بإعجابٍ لمعلِّمِه..
آسرٌ هو البدرُ دائماً، وهو آسرٌ ساحرٌ حينما تجلّى هنا، فعرفنا كيف تُشرَبُ الملامح!
كما تجلى راكان، وحسين الجسمي في تجسيد الصورة:
«على الغديرْ كانتْ سما..
ويرمِي الظما وجهي عليه
على الغديرْ.. وجهي وسما..
لينْ ارتمى وجهكْ عليهْ.
على الغديرْ..
وجهي.. ووجهك والسما..
منْ يسبقْ ويملا يديهْ..
يشربْ ملامحْ صاحبهْ.
* * *
ليتْ السحابْ..
يظهرْ.. على المدى الباهتْ..
وتمرْ ثلاثة طيورْ..
بين العتمْ والنورْ..
ينبتْ شجرْ.. وـعشابْ..
وطفلٍ يبيعْ زهورْ..
يُولدْ..
وتتحوَّلْ الأخشابْ..
كرسي..
واجلسْ أنا ويَّاكْ
قبل الظلال هناكْ
في آخر الصورةْ..!»
ولا يقف الجمال هنا، هذه الصورة المتدفقة الرقراقة كصفحة نهر، هذا الجنون العاقل في اصطياد المداخل والصور، حين تستخدم شعاعاً لترسم قصة حب:
«شعاعْ..
يدخل الغرفةْ
بعد العصرْ
ويزحف فوق سجادَةْ.
ويطلعْ فوقْ ها الكرسي
ويمكنْ يلمسْ وسادَةْ.
ولحظة ما.. لمحته خافْ..
تراجعْ..
طاحْ
منَ الكرسي..
وركضْ قبلَ النهارْ يمسِي..
ركضْ للشمسْ كالعادَةْ.
* * *
يذكرني شعاع العصر
عيونكْ تدخل ضلوعي
في غفلة من عيون الناسْ
وتأخذْ قلبي
منْ قلبي..
وتضيق فـ صدري الأنفاسْ
ولمَّا ينتبهْ واحدْ من الجلاسْ
بسرعة تركض النظرةْ
على السجادْ
والكرسي..
وأحس أنَّ النهارْ يمسِي
وتغيب الشمسْ كالعادَةْ!»
هذا شعر حب وسلام إنساني عالمي كتبه بوجدانهِ شاعرٌ من قلبِ نجد، قلبِ المملكة العربية السعودية..
أفلا يحقُّ لنا كسعوديين أن نفتخر، عندما يقدم البدر صورة راقية لنا، ولشعرنا وإبداعنا؟!
وألا يجب علينا في نفس الوقت أن نقف له إجلالاً وتبجيلاً؟!
ليس لأنه أبدع هنا، وفي هذه الأمسية العالمية بالتحديد، ومثل المملكة خير تمثيل، لا، بل لأنه رفع هذه الراية: راية الحب والسلام والتسامح عبر الشعر والفن طيلة عمره، ولأنه وصل إلى ذروة تجربته، وهي تجربة ثرية فريدة متنوعة، لم نحسن قراءتها، ولا التعامل معها، في هذا الوطن، للأسف، سوى عبر التصفيق والإعجاب!
نحن أمام كنزٍ هنا، ومنابع حب وإبداعٍ وجمال لا تنضب، وعلينا أن ننهلَ من هذه الينابيع، وأن نعيد بث هذه الروح، روح الحب والسلام والشعر والفن والجمال، التي أصبحت ضمنَ رؤيةِ المملكة العربية السعودية، يا لسعادتنا، اليوم.
وأن نتعلم من البدر، فالبدر أستاذ، ليس في إدارةِ مفرداتِهِ، وتوجيهها، عبر خبرته وحنكتِهِ، نحو غاياتهِ العليا فحسب، بل في إدارةِ المسرحِ والأضواءِ والجمهور.
إنه يعرف من أين تؤكل كتف القصيدة، وإن كان في هذا التعبير جلافة، وهو الرقيق، فهو يعرف كيف ينثر لعصافيرِ القصيدةِ الحَبَّ لتصدح بالغناء.
وهو يعرف كيف يوزع ماء الروح على تربة الشعر بقياس لتثمر من كل لونٍ بهيج.
فقبل أشهرٍ، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما كتب رائعته الوطنية «عوافي»، وكان الموقف حاداً، يتطلبُ حدَّةً وغلظةً في القول، لكنه وجد مراده عبر نافذةٍ، أو كُوَّةٍ صغيرة، ليدخل إلى قلوب ملايين السعوديين وأشقائهم العرب:
هو لم يدخل من بابِ الحرب، هو دخل من باب حبيبته نجد، المملكة العربية السعودية هنا، وهدأ من روعِها، وطلبَ منها أن تنام ولا تفزع..
«عوافي.. قربي منك الوسادة وادخلي لحافِكْ»..
حتى غدت هذه الكلمات على ألسنةِ الملايين..
وعاد لمفردة «عوافي» ألقها، بل هي تأنقت وتألقت عبر هذه القصيدة.
فيا للجمال عندما يشيعه شاعرٌ جُبِلَ على الحبِّ والجمال.
والقصة لا تنتهي مع أمسية اليونسكو هنا، بل هي في الحقيقة تبدأ من هنا، من البدر، ومن طبيعة البدر التجدد..
فعبر منظومة درره في حفل وزارة الثقافة «مملكة الحب والسلام» موروث عميق.. ومستقبل مشرق:
«السما حبْ..
والثرى اللي تحتها حبْ
والنهار اللي بينها..
وبين السما والثرى حبْ.»
وهذه التيمة، تيمة الحب والجمال، هي الغالبة على هذه المنظومة من الأعمال الفنية التي تقارب التسعة، كتبها، وأشرف على أدق تفاصيلها البدر بنفسه لتخرج بهذه الروعة.
ويلاحظ المتابع المحب غزارة إنتاج البدر في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ أن كُلِّف من قِبَلِ الدولةِ بتأسيس «مؤسسة بدر بن عبدالمحسن الحضارية» التي تعنى بالإبداع السعودي: إنتاجه، واستنهاضه، والبحث في تراثه، ونفض الغبار عن جواهره، والتذكير عبر العمل برواده، وإبراز نتاجهم، ولفت النظر إلى الرواد الذين لم تطبع أعمالهم بجمعها، ودعم الموهوبين والموهوبات في شتى مجالات الإبداع، ومن ناحيةٍ أخرى نقل صورة حقيقية وصادقة لهذا الإبداع للخارج عبر أعمالٍ متنوعة ومدروسة تنتج بأناةٍ وإمعان نظر..
ولا تأتي غزارة الإنتاج على حسابِ المبنى والمعنى في أعماله، بل اتخذت أعمال البدر منحىً جديداً جميلاً، لمسناه في «دهشة الورد» وأخواتها في دورة مهرجان عكاظ 2017، و»رذاذ» وأخواتها في دورة عكاظ 2018، «يا طويق» التي أعادت هذا الاسم العلَم إلى ذاكرة الناس والشعراء، كما فعلت «عوافي» المفردة الشعبية المحببة لقلوب ومسامع الأهل.
وموهبة البدر لا تكمن في كتابة القصيدة أو الأغنية وإنتاجها، بالمعنى الفعلي لكلمة إنتاج، كما نراها أو نستمع إليها في صيغتها النهائية المغنَّاة فحسب، بل هي تكمن في عمق رؤيته، وتصوره، لشكل العمل النهائي.
وهذا لا يقتصر على الشعر، بل يتجاوزه إلى النتاج الثقافي من عروض واحتفالات ومناسبات.
ومن ذلك أن البدر يرى أنه لكي يتطور المشهد الثقافي لدينا فلا بد من تغيير نظرتنا لكيفية إنجاز أعمالنا، وقد كتب بخط يده هذا الكلام المهم، الذي أنشره على مسؤوليتي هنا لأول مرة:
«في اعتقادي الخاص، أن الحركة الإبداعية في المملكة، واجهت وستواجه إشكالية كبيرة بسبب عدم الفهم للإبداع وما يحتاجه، وما هي السبل المحرضة عليه، وما هو المناخ السليم الذي ينمو ويترعرع فيه.
وفي اعتقادي الشخصي أن تسخير الإبداع لخدمة هدف ما هو السبب الرئيس لوأد هذا الإبداع، وجعل الوصول إليه مسألة في منتهى الصعوبة.
منذ أربعين سنة، ونحن في المملكة نقيم مهرجانات غنائية وشعرية وغيره، وننشئ مؤسسات للعناية بالفن والأدب، ولم نكسب منها مبدعاً واحداً في هذه المجالات، ولولا الجهود الفردية لبعض المتفردين، لما كان لدينا مبدع واحد!
المطلوب ببساطة، أن نجعل الإبداع هو الأول وليس الهدف الذي نريد أن نحققه منه، وذلك أن الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الإبداع.
مثال:
«مهرجانات بعلبك أو بيت الدين لم تكن في يومٍ ما تتكلم عن أمجاد أو تاريخ بعلبك، ولا أمجاد وتاريخ بيت الدين.
«الذي كان يقام على بعلبك وبيت الدين هو عمل فني إبداعي، ليس له علاقة بالتاريخ أو بالموقع، وكذلك فإن الفنانين الذين تستضيفهم هذه المهرجانات كانوا يقدمون إبداعهم الشخصي، وأفضل ما لديهم، ولم يكونوا يُستدعون للإشادة بتاريخ المكان الذي يقيمون حفلهم عليه.
«لم يذكر شعراء المعلقات سوق عكاظ في شعر هم فيما أعلم ولا مرة واحدة، ورغم ذلك نسب هذا الشعر الرائع لسوق عكاظ!»
من هنا يمكننا أن نفهم من هذا المعلِّم، وأن يتعلم أبناء مدرسته، والشعراء الشعبيين أن للقصيدة أسراراً ومفاتيحَ لا تكمن في رصفِ الحروف والكلماتِ بكل تأكيد!
ولا تكمنُ في التنافس على إطالة نفس القصيدة، وعدد أبياتها، فيكون الحكم على الطول لا على المضمون، فتتوه القصيدة، ويتوه قارئها!
لقد بنى بدر بن عبد المحسن عبرَ العمرِ مدرسته، أبوابَها، ونوافذَها، أثَّثها بألوانهِ، وشجَّرها بمياهِ الروح، ولم يبنِ عليها سوراً، ولم يضعْ لها مناهج وقوانين، بل فتحها للحياةِ، وأهلِ الحياة..
وهندسها بطريقةٍ تسمحُ «لأشعةِ الشمس» أن تدخل من كل مكان، لتلامسَ: السجاد، والكراسي.. وربما الوسائد، ليرسمَ الناسُ قصصَ حبهم بأشعة الشمس، لتتماهى مع نور عيون حبيباتهم.
لقد قبض البدرُ على جمرةِ الشعر..
وهذا سرُّ نجاحِ تجربةِ البدر واستمراريتِها وتجددِها.
وهذا ما يجعل قصائدهُ تُحلِّق ولا تمشي على الأرضِ كبقية القصائد الشعبية، وحتى الفصحى، التي فقدت بريقها، عندما زالت عنها ملامح الدهشة والإمتاع، وقدرة تحريك الحواس، ودخلت بإرادتها سجون النمطية والبلادة، فداءُ الشعرِ هو استسهالُ الشعر، واستعجالُ الكتابة، ودواءُ الشعرِ هو الابتكارُ لا التكرار.
وهذا سرُّ نجاح البدر..
وهذا سرُّ حبِّ الناس الجارف الخالد للبدر!
وفي الختام، فإنني أوثق شهادتي هنا، ليس من باب المديح، وهو جديرٌ بالمديحِ، ولكنه في غنىً عنه..
ولكنني أكتبُ من بابِ الحب، حبي للوطنِ، وحبي للشعرِ، وحبي للبدر..
ومن بابِ أننا ينبغي أن نقول للمحسنِ أحسنت..
وأن نتخذَ من ذلك سنةً تجاه مبدعينا، وكل أصحاب العطاءات المميزة للوطن..
ومن بابِ ألا نهملَ وننسى أعمالنا الفنية ومنجزاتنا، فتتوهَ في الأرشيف، هذا إنْ حظيَتْ بفضلِ الأرشفةِ أصلاً، وهو ما اعتدنا عليه مع الأسف، قبل أنْ تُنشَرَ وتُكرَّسَ، وتُدْرَسَ، وتُدَرَّس!
ومن بابِ تدوينِ الحق،
ومن بابِ ذكرِ أصحابِ الفضل..
والعربُ تقول: الفضلُ للمتقدِّمِ.
والبدرُ تقدَّمَ.. فاستحقَّ هذا الفضل!
والسلامُ السلامُ، والحبُّ من بعدُ.. ومن قبل.