د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ما أقصده بالصورة في هذا المقام هو الصورة الذهنية التي نكونها كجماعات ومجتمعات عن العالم، وما أقصده بالواقع ليس الحقيقة الفلسفية التي تجادل حولها الفلاسفة عن حقيقة الكون وماهيته الميتافيزيقية، بل الواقع الذي نتعايش معه ونعيش فيه حسب تصورنا له. والهدف هو التذكير بأنه منذ ظهور وسائل الإعلام الحديثة المؤثرة وعقولنا تُقذف بعدد لا حصر له من الصور سواء الصور المرئية أو الصور اللغوية المكتوبة والمسموعة، وأخطرها هي تلك المصورة تلفزيونيًا أو سينمائيًا عن عوالم مختلفة وإثنيات بعيدة ومجتمعات وجماعات لا نعرفها عن قرب. فالعالم يُقدم لنا في مشاهد مختارة ومنتقاة بعناية وعبر حبكات وسيناريوهات محكمة فائقة الإعداد بينما نحن مرتاحون ومتكئون على أرائك صالات الجلوس في منازلنا مع من نحب وما نحب بشكل يجعل التقبل تلقائيًا.
هذا العالم الذي يُقدم لنا ليس هو العالم الحقيقي كما هو وبكل تفاصيله، إنما هو عالم مغاير يعبث به من يقبع خلف إنتاجه وإخراجه لنا ويجعلنا نخلط بشكل كبير بينه وبين العالم الحقيقي. ما نشاهده مجرد قبسات ولقطات تعبث بإدراكنا وتترك لعقولنا حرية التعميم وإكمال الصورة وتبنيها. فأبحاث علم النفس المتعلقة بالإدراك الحسي أثبتت أن عقل الإنسان هو المدرك الحقيقي وليست حواس الإدراك، وأن التعميم وتخزين الصور التمثيلية لما يعرض أمامه من أهم سمات العقل البشري. فهذا العقل يربط بين ما يعرض له وما هو مخزن فيه بشكل يجعل التعميم سمة أساسية من سمات تفاعله مع ما حوله. فمعظم ما نشاهده على شاشات الفضائيات من أخبار أو حتى ما يسمى بالأفلام الوثائقية، أو العروض السينمائية ونعتقد أنه أحداث كبيرة مدلهمة هي في الواقع صور مختزلة تعكس واقعًا صغيرًا جدًا والباقي يتكفل به خيالنا ويعممه فيحول بنايات معدودة لمدن كبيرة، وشخصيات محدودة لحشود كاملة.
الصور المتحركة التي تشاهد اليوم بنقاء وصفاء كبيرين من حيث الألوان والأصوات الطبيعية تدفع إدراكنا الحسي للخلط بينه وبين الواقع الحقيقي بسهول كبيرة، وما تتركه الصورة تتلقفه اللغة، فمصطلحات محدودة مجردة تجسد أمور في حقيقتها متباينة ولا حصر لها. عقولنا محشوة بمصطلحات لا مرجعيات حقيقية لها: حرية، ديمقراطية، عدالة، فساد، وطنية، إرهاب، تطرف، شرعية.. الخ، وعقولنا تختار علاما تعود. تضاف البهارات اللغوية للصور التلفزيونية فيُخرج لنا عالم حقيقي السمات مغلوط المكونات نقبله على أنه هو العالم الحقيقي. وهنا تتجسد خطورة الفضائيات وما تخلقه لدى البشر من صور مغلوطة سواء عن أحداث أو شخوص، صور عندما تتكرر تتحول إلى صور نمطية، صور مقولبة يعتاد عليها المتلقي ويصدق بها تصديق شبه عقدي.
عقول البشر في عالم الإعلام الرقمي محشوة بصور ممنتجة يخلطون بينها وبين الواقع الحقيقي. فعالم الفرد اتسع بشكل لا يمكنه تحسسه بنفسه. ولغة حوارات المشاهد المعروضة لا تمثل الواقع بل تعمل على تسهيل امتصاص المشاهد للصور الافتراضية عن هذا الواقع. ويكوّن المشاهد تدريجياً قناعاته وقيمه على ما ترسخه لديه وسائل الإعلام الرقمي وهو في غرفه الجلوس في بيته. والخطورة هي أن المشاهد لا يكون صورته عن العالم من واقع صور مختزلة فقط، بل إن وسائل الإعلام تبرمجه وتكون لديه عادات سلوكية تلقائية لتقبل هذه الصور والبحث عنها مستقبلاً.
ولعلنا نحاول الوصول لبيت القصيد في هذا المقال، وهو أن ما يعرض في محطاتنا الفضائية من صور مختزلة عن مجتمعنا، أو صور نمطية عن أفراد فيه، سواء كانت هذه الصور إيجابية أو سلبية هي صور حساسة جدًا قد يتلقاها الآخر بصور مختلفة عنا ويعممها علينا على أنها واقعنا. المسلسلات والصور الهزلية عنا بهدف إضحاكنا على واقعنا تخاطر بشكل كبير بإضحاك الآخرين علينا، وتعميم هذه الصور على كامل مجتمعنا. نعم نعرف أن هذه الصور تبالغ في تصويرنا بشكل مضحك وفي أدوار دونية لأننا أبناء هذا المجتمع ولدينا خلفية كاملة عن واقعه، لكن غيرنا لا يرى إلا ما يشاهده أمامه ويفتقد الخلفية لتفسيرها. عشنا ردحًا من الزمن نعتقد، بل ما زال البعض يعتقد، أن الهندي الأحمر مجرم متخلف والأبيض هو المتحضر الضحية، والأسود مجرم وبائع مخدرات وقواد والأبيض رجل بوليس صالح يحرس المجتمع من شرور السود. هذه صور خلدتها الأفلام والبرامج في أذهاننا عن مجتمع بعيد عنا لا يصدقها كثير من أفراد ذلك المجتمع ويعرف أنها مكذوبة أو مبالغ فيها. ونحن نعرف حقيقة مسلسلاتنا وبرامجنا لكن الآخر قد ينظر لها كسجلات واقعية لحقيقتنا.