د. حسن بن فهد الهويمل
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} بين [التواكل]، و[التوكل] خيط رفيع، لا يدركه إلا العالمون. تعمل، وتُفَوِّض. أو تقعد، وتنتظر.
لقد حدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأسلوب الأمثل للحياة السوية:- [لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً، وتعود بطاناً]. أو كما قال بأبي هو، وأمي.
[التوكل] الصحيح يواكب العمل الجاد، المنضبط. يرود له ويحمي ساقته، الأرض مصدر الجميع، وموئل الجميع. {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
هذه الأرض هي مجال الكدح، والكد:-
[إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها]. حديث صحيح للحث، والتشجيع على العمل، الجاد، المفيد للأمة، لأنه يدخل في [الأمن الغذائي]، وإلا فالساعة تُذْهل كلَّ مرضْعَةٍ عما أرضعت.
وقد يكون المقصود [القيامة الصغرى]، وهي موت الإنسان، ففي الأثر:- [من مات قامت قيامته].
معتصر المختصر نحن خلقنا للعبادة، والعمل:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} و{وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} حِفْظُ توازنٍ دقيق.
فالإنسان خلق للعبادة، ولكي تتم على الوجه الأكمل، لابد من تهيئة الأجواء المناسبة لها. وأهمها الأمن، والاستقرار، والكدح من أجل الدنيا، والآخرة.
من الناس من يعمل على غير هدى. ومنهم من لا يعمل. ومنهم من ينقطع للعمل ناسياً ربه، ونفسه، حتى إذا حضره الموت، قال: [ارجعون].
[كلُّ النَّاس يغدو، فبائع نَفْسَهُ فمعتقُها، أو مُوبِقها]. وما أكثر الذين يفسدون، ولا يصلحون: - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
هذا ظنهم، وهذا مبلغهم من العلم:- {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}. لا أحد يتعمد الإفساد، دون تبرير، وجود المفسدين مرتهن بالإفساد، بمعنى أن المفسد لا يضمن وجوده إلا بإفساد ما أصلحه المصلحون.
ولأن أكسير الحياة [الصراع]، فقد أصبح من الضروري اقتناع كل عامل بعمله، وأصبح من الضروري وجود متناقضات. كل فئة ضالة تؤمن بصحة عملها. ونزاهة مقاصدها. فهي كالأنعام بل هي أضل:-
{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا}
الكون كله خلق على الفطرة، وتصرف الإنسان غَيَّرَ فطريته، وجاءت الرسلُ لتأطره على الحق.
فساد الحياة من أهلها الذين لا يعملون، أو أنهم يعملون المفاسد، وهم يظنون أنهم يصلحون:- {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ}.
الراصد الواعي الوجل لأحداث أمته يقف على أعمال شريرة، لا يمكن عملها في ظل العقول، والعيون، والآذان الواعية لمهماتها:- [مفتحة عيونهم نيام].
الوضع القائم في عالمنا وضع مدان، ومدين لكل من أسهم في خرابها، مع أن كل مُنْجزٍ يدعي أنه على الحق. وأنه لم يعمل إلا خيراً.
ما عليه الأمة من ذلة وهوان، ووهن، وتشتت، ودماء، ودمار، وحقد، إن هو إلا عمل مدان، وإن ادعى الخيرية.
اللهم إنا نسألك البصر، والبصيرة:- {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. اللهم لا تزين لنا سوء أعمالنا:
[يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ... حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالحَسَنِ]
لقد زُيِّن للمتنفذين سوء أعمالهم. عالمنا أحواله كلها متردية، وهي بلا شك ترجمة حية لكافة الأعمال غير السوية، ومن لم يدن الأعمال، والعاملين فهو من الجاهلين.
[بقية الله] تكدح إلى ربها كدحاً، ولها معه لقاء، وسوف يكافئها على ما تحمله من هموم، وما تنجزه من أعمال، وسط الانهيارات الموجعة.
إن على هذه [الطائفة المنصورة] أن تعض على منهجها، ومنجزها بالنواجذ، وألا يحبطها تكالب الأعداء. هذا وعد الله:
[يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها].
فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟
قال: [بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن].
لقد تحققت [الغثائية]، و[الوهن]، و[عدم المهابة]. وهذا من الإعجاز النبوي، فوضع [الأمة الإسلامية] اليوم، لا يختلف عما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أربعة عشر قرناً. وأصبح الإسلام شعاراً لكل طائفة ضالة مضلة.
وكل هذه الترديات لا تحول دون التحرف لمنهج، وعمل يقيل عثرة الأمة. ودون تحيز لتوحيد الكلمة، والصف، والهدف، تحيز يقوي جانب الأمة، ويرفع عنها ذلة المسكنة، والضعف.
العقلاء العالمون المجربون يودون لو أن [أولي الأمر] تدبروا، وفكروا، وقدروا، وخلَصُوا من هذه الأوضاع التي أخافت الآمنين، وشردت المقيمين، وهدمت البيوت، وأراقت الدماء، وانتهكت الحرمات، وأضاعت الأمن، والاستقرار، وأشاعت الخوف، والجوع في بلاد كانت مضرب المثل في الأمن، والثراء: [العراق]، و[سوريا]، و[اليمن]، و[ليبيا]، و[لبنان].
وها هي بوادر الشر يذر قرنها في [السودان]، و[الجزائر]. لا بد من تفكير سليم، وتحرف رشيد، لإيقاف هذا النزيف، وبدء رحلة العودة إلى ماض كنا نذمه، ونقسو في ذمه:
[رُبَّ يَومٍ بَكَيتُ مِنهُ فَلَمّا... صِرتُ في غَيرِهِ بَكَيتُ عَليه].
إن على الشعوب العربية بكافة مكوناتها السكانية، والحزبية، والطائفية أن تعي واقعها، وأن تواجه قدرها العصيب بما يقيل العثرة، ويحقن الدماء، ويجمع الكلمة.
الشعوب العربية الواعية التفت حول قيادتها، وقوَّت لحمتها، وحالت دون اختراقها.
وعلى الشعوب المنكوبة أن تتخذ القدوة، وتعود إلى رشدها. فذلك هو العمل الناصح الرشيد:
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.