د.فوزية أبو خالد
قرأتُ في مطلع عمري الكتابي، وكنتُ بالصف الثاني المتوسط، مقالة للناقد اللبناني مارون عبود، يقول فيها بأهمية تسجيل التجارب التي نمرُّ بها وهي بعد طازجة المذاق، متوهجة في الذاكرة؛ فوعدتُ نفسي في ذلك العمر العاري من التجارب إلا ما تبقى على شفاهي من حلاوة الطفولة ومرارتها الصغيرة أن آخذ بتلك النصيحة التي خلتها في ذلك الهزيع الفجري من حياتي نصيحة عملية إلا أنني بعدها بقليل قرأتُ للعقاد، يوم لم يكن لي في الحياة من عمل إلا رفاهية القراءة ورغد التساؤل، قولاً نقيضًا، ينص على تأجيل الكتابة عن التجارب إلى ما بعد أن يهدأ أوارها؛ لأنه يعطيها وقتًا لتتخمر، وتتعتق، وتنضج؛ فتأتي الكتابة عنها صافية، لا تشوبها شائبة بعد تخلصها من زبد الدفقة الأولى، ومن طعم الطعنة في الجرح. وككل حفر في المراحل الطرية من حياتنا مما يصعب محوه، وإن امتدت بنا السنوات، بقيتُ ردحًا من العمر أُقلب القولَيْن، ولا أعرف لأي منهما أنحاز كلما صادف ومررت بتجربة، وأحسستُ أنها تستحق وقت الكتابة وجهدها وعزلتها. ومع أنني لم أستطع أن أحسم موقفي من المقولتين حتى بعد أن شارفت شفق الغروب من العمر، فإنني أتوصل أحيانًا قليلة لنوع من الموقف المستقل في الإقدام أو الإحجام عن كتابة تجربة ما من التجارب البسيطة أو العميقة العامة أو الخاصة التي أمرُّ بها، وخصوصا لو لم تكن تجربة عاطفية خالصة؛ إذ إن التجارب العاطفية هي الأكثر إرباكًا لنا؛ لأن الكتابة عنها في لحظة احتدامها أو لحظة انحسارها تظل كتابة غير محايدة؛ لأننا ببساطة في كتابة أي تجربة من تجارب حياتنا، فما بالك بالتجارب الوجدانية، نضطر لأن نعيشها مرتين غالبًا بنفس العنف والحدة، وبنفس الشخصية، وأحيانًا أقل بموضوعية أكثر، وبشخصيات أخرى، قد لا تكون أكثر تعقلاً، ولكنها ربما تكون أقل توترًا. ويبقى السؤال معلقًا في عنق الكاتب، عالقًا في حنجرته: أيهما أشد إخلاصًا وأقوى أخيلة، وفي الوقت نفسه أشد رشدًا، أن تُكتب التجارب طازجة وهي منفلتة في فورة احتدامها أم تُكتب معتقة بعد رسوها للأعماق؟
على أن ما يحسم السؤال - في رأيي، وحسب خبراتي الواسعة في مواجهة ترف الفشل وبهاء الهزائم، وفي الكتابة بالضوء في العتمة، وبالأمل في اليأس - هو مساحة الحرية؛ فالحرية هي السحر والحبر وكلمة السر ومفاتيح الأقفال التي تقرر أن نكتب التجارب وجرحها أو فرحها بعد أن يقطر أم نكتبها بعد أن يجف لوح الأقدار وتُرفع الأقلام.
هذه مقدمة معقدة، مررتُ بأسئلتها فيما كنتُ أشاور نفسي في كتابة بسيطة ومختصرة عن تجربتي في تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام.
ومع أن التجربة التحكيمية لم تكن الأولى في حياتي فقد اشتغلت كمحكمة لعدد من أعمال الشعر والنثر والبحوث وكتب الأطفال باللغتين العربية والإنجليزية إلا أن تلك التجارب كانت تمرُّ كجزء من برنامج وإيقاع عملي الإبداعي والأكاديمي بما يتسم به عادة من عزلة وسمت ومعيارية متعارف عليها في تحكيم تلك الأنواع من العمل الإبداعي ومن البحث الأكاديمي، على خلاف التجربة الأخيرة التي وإن كان بينها وبين تجارب تحكيمي السابقة مشتركات، وأهمها مشترك العزلة والسرية والإخلاص الإبداعي والالتزام الموضوعي, فإنها جاءت مختلفة في حجم المادة المحكمة، وفي فترة التحكيم التي امتدت لعام كامل، وفي نوع المادة المحكمة، وهي السرد الروائي بما يملك من أسرار وأدغال القدرة على التمنع على المعايير الكمية الخالصة للتقييم والقياس. كما جاءت مختلفة في تعدد مراحل نتائجها بتصفيات القوائم من القائمة الطويلة إلى القائمة القصيرة إلى الرواية الفائزة، وكذلك باختلاف مناطق إعلان نتائجها من إسطنبول إلى القدس انتهاء بأبوظبي. هذا بالإضافة إلى تعدد خلفيات أعضاء لجنة التحكيم ثقافيًّا وانتماء؛ ففيها العرب وغير العرب، وفيها الأكاديمي والمبدع والناقد المتخصص بالنقد الروائي. أما بؤرة الاختلاف فهي هذا التعالق الجميل والموجع معًا في هذه التجربة تحديدًا بين سرية عمل التحكيم وضميريته العالية، وسمته الدؤوب، وحساسيته التقييمية، وهدوئه المهني الشديد، وبين الإعلام بنزعته الصارخة للعلنية، وبطبيعته الصاخبة في التعاطي مع كل المواد الصلبة والسائلة الشفيفة والعميقة، على أنها مواد حارقة قابلة للاشتعال ولو أدى الأمر لافتعال ذلك. ومن أمثلة ذلك التعالق تلك الزوابع المفتعلة التي تكاد تثار صحفيًّا كل عام بعمر الجائزة على مدى أعوام بما تكرر هذا العام أيضًا.
وإذا كنتُ عند هذا الجزء من المقال قد حسمت أمري بأن أتريث وأؤجل الكتابة عن تفاصيل تجربتي كأحد أعضاء لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية المتعارف عليها إعلاميًّا بجائزة البوكر العربية، فإن ما لا يدرك كله لا يُترك جله؛ وسأكتفي بذكر بعض التغريدات التي سجلتُ فيها بعض ومضات تلك التجربة.
احتسيت لعام كامل ما بين إبريل 2018 وإبريل 2019م ما لا يحصى من كؤوس ماء القراءة وقراحها لعدد من الروايات العربية الصادرة بين العام السابع عشر والثامن عشر بعد الألفين، وكان عددها على وجه التحديد 134 رواية لروائيات وروائيين من مختلف دول مشرق ومغرب الوطن العربي، إضافة إلى إثيوبيا وإريتريا وموريتانيا والصومال.. وقد تراوح بطبيعة الحال مذاق القراءات من مذاق حارق لمذاق عذب، ومن نكهة كرومية من عذب العنب إلى نكهة الصبار بأشواكه المشرئبة على ملمس تلك الفاكهة الأملس.
ليس سهلاً أن نشرب الماء من مصب النبع طالما تعودنا على الشرب في آنية أنيقة..
فأن تقرأ روايات محددة من اختيارك الشخصي غير أن تقرأ عددًا مهولاً من الروايات، فتشرب منها وكأنك لم تشرب ولم تقرأ من قبل.
كان إعلان القائمة القصيرة للروايات العربية في شهر فبراير/ شباط من القدس الشريف على أرض فلسطين اجتهادًا من لجنة الجائزة لتعضيد العمل الثقافي الفلسطيني ومؤسسات العمل الثقافي بفلسطين، كمسرح الحكواتي وجامعة النجاح، ولبناء وشائج لا تنفصم بين العمل الثقافي الفلسطيني وأفق العمل الثقافي العربي. وامتدادًا لهذا الموقف النزيه كان امتناع أعضاء لجنة المحكمين من العرب عن زيارة القدس نظرًا لتحكم سلطة الاحتلال الإسرائيلي في فيزا الدخول إلى الأراضي الفلسطينية. وعلى ما يبدو في هذا الموقف من مفارقة فإن الوقوف عليه عن قرب يلقي الضوء على ما انطوى عليه من شجاعة والتزام في تأكيد الترابط العضوي بين الثقافة العربية وثقافة فلسطين، وفي الوقت نفسه ما مثله من صمود وتحدٍّ في رفض الاحتلال الإسرائيلي للقدس وبقية أرض فلسطين.
أخيرًا بعد ماراثون القراءات الشغوفة اللاهثة المتأنية المثابرة لذلك العدد الكبير من الروايات ها نحن الآن 23/ 4/ 2019 على المشارف النهائية لإعلان الرواية الفائزة للجائزة العالمية للرواية العربية في حفل الجائزة بمدينة أبوظبي الجميلة في ضيافة دائرة الثقافة والسياحة. وفي رأيي إن جميع الروائيات والروائيين الليلة ممن دخلوا الحلبة هم بدون منازع فائزون بقُراء مغرمين بملكوت الكلمة.
دعوة شفيفة لكل عشاق القراءة لمشاركتي فوزي الشخصي بنشوة القراءة الأخيرة مرات عدة لروايات القائمة القصيرة، النبيذة، شمس بيضاء باردة, بريد الليل، صيف مع العدو، بأي ذنب رحلت والوصايا، ولمشاركتي أيضًا نشوة قراءة القائمة الطويلة وخارجها. فهناك من إكسير الكلمة ما لا يمس بالمعايير النقدية في عصيان إبداعي متعالٍ.