د. حمزة السالم
الإسبان هم أول من اكتشف أمريكا، بتمويلهم لكرستوفر، الذي قادهم لأمريكا الجنوبية. وكانت إسبانيا، آنذاك، هي القوة العظمى المهيمنة على أوربا، وكانت تتبنى المذهب الكاثوليكي، وتجبر الناس عليه. فبحق الاكتشاف وبقوة الهيمنة، ادعى الإسبان ملكية الأرض الجديدة كلها، وهم لم يتصوروا بعد، مساحات الأمريكيتين.
وقد استقبل السكان الأصليون، لأمريكا الجنوبية، الإسبان بتقدير وهيبة، حيث ظنوا أن الإسبان آلهة، كونهم يركبون الوحوش (الأحصنة) ويستخدمون النار ضد عدوهم (البنادق والمدافع البدائية جدا). ولم يجدِ هذا التقدير مع الإسبان، حتى ثاروا عليهم.
وعموما، فما إن مضى قرن من الزمان، إلا وقد أتى الإسبان على كل أمريكا الجنوبية كلها، مع ولاية فلوريدا وغالب ولاية تكساس وما غربها. وخلال ذلك القرن كذلك، فقدت الإمبراطورية الإسبانية قوتها، كنتيجة حتمية لدموية الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية وهيمنتها، ومنهجها في منع الفكر والعلم والحرية الدينية، وبعض من ذلك، ما كان يُسمى محاكم التفتيش التي استمرت ثلاثمائة سنة، وانتهت على يد نابليون عندما احتل اسبانيا. (تلك المحاكم التي قضت على اليهود والمسلمين والبروتستانت وحتى على الكاثوليك من غير الإسبان بحجة أن تحول آبائهم للكاثوليكية، لم يكن مخلصا).
بينما كانت بريطانيا، في ذلك القرن تعيش عصرها الذهبي على يد الملكة العذراء إليزابيث الأولى، التي حكمت بريطانيا أربعين سنة، ملأت خلالها الأرض حرية وعدلا، وسمحت بل شجعت على حرية الرأي والفكر والدين. فقد كانت الملكة على مذهب أمها ماري أن، أي على المذهب البروتستانتي، الذي يدعو أتباعه لقراءة الإنجيل والتفكر والعلم. كما شجعت الملكة العذراء على الاستيطان في أمريكا، فاستوطن البريطانيون الساحل الشرقي. (وسيطر الفرنسيون على قطاع لوزيانا، دون استيطان كما هو حال البريطانيين في الساحل الشرقي أو حال الإسبان في أمريكا الجنوبية).
وبافتراق الثقافة الفكرية بين المهاجرين لأمريكا الجنوبية والمهاجرين لأمريكا الشمالية، افترقت الحضارتين. فقامت حضارة الحرية والتفكر والعلم في أمريكا الشمالية، بينما قامت حضارة الديكتاتورية والجهل في أمريكا الجنوبية، «فتوحدت الأولى على الديمقراطية، بينما تقسمت وتفرَّقت الثانية على الدكتاتورية»، وقل اللهم مالك الملك.
وفي تاريخ الأمم والشعوب عِبر ودروس عظيمة. فمن تأمل تاريخ الأمم، سيجد أن الله قد رفع الأمم أو أذلها، بتمكين شخص أو أشخاص قليلون. فالمذهب البروتستانتي، قام على يد رجل واحد، ثم مُكن على أيد أمراء ألمانيا لأسباب سياسية. ومن العِبر أن الصالح ينتج صلاحا بعده، كالملكة العذراء أنتجت مجتمعات عزيزة النفوس، وحرة الفكر فمكنت هذه المجتمعات خيارهم من تولي الأمور. ومن العبر كون قيام القارتين الأمريكتين بملكتين لا ملكين، والعبر كثيرة في تاريخ الأمم، «ولكن تأخذ الآذان منه... على قدر القرائح والعلوم».