د.محمد بن عبدالرحمن البشر
نواميس الحياة كما خلقها الله لا تتغير، تسير باتساق متناهي الدقة، وهذا الكون الكبير الذي لا نعلم إلاّ القليل عنه جزء من خلق الله، وهناك كواكب تدور حول النجوم، ومجموعات تدور في فلك مجرات، ومجرات تدور حول ما هو أكبر، وهكذا، تسير في نظام عجيب كما أراد الله، ليعطي الإنسان القابع على هذه البسيطة، أنموذجاً ليكون منظماً في حياته، سائراً في طريق مرسوم، وإلاّ لتضاربت المعطيات، كما لو أن هذه النجوم فقدت نهجها، فتصادمت.
الأرض تدور حول نفسها بانتظام، وتسير بسرعة تبلغ نحو سبعة عشر ألف كيلومتر في الساعة، وتدور حول الشمس بنحو مائة وسبعة آلاف كيلومتر في الساعة، وتستمر كذلك، وهذا أنموذج الكوكب الذي نعيش على ظهره، ونسير معه بسرعته نفسها، لكننا لا نحس بذلك، لأن الله سبحانه وتعالى قد صنع في الطبيعة قانوناً يجعل المرء لا يحس بالسرعة لأن السرعة بيننا وبين ككوكبنا متماثلة، فسبحان الخالق المبدع.
عندما تدور الشمس حول نفسها يكّون الله الليل والنهار، وعندما تدور حول الأرض نعرف عدد السنين والحساب، ويدور القمر حول الأرض وتتكون الفصول، وتعرف الأشهر القمرية، ومنها شهر رمضان المبارك، وهو يسير كسائر الشهور في نسق عجيب، تماشياً مع مسيرة القمر حول الأرض، وسيظل كذلك يطل علينا في فصول متعددة، بحساب دقيق لا يحيد عنه، وقد ميزه الله لنا معشر البشر، عن سائر الأشهر القمرية، ليكون شهر صوم، ومزيداً من العبادة، والتسامح والمحبة، والصفح، والعطاء.
الإنسان ليس كسائر الكواكب يسير في نظام معين، لكنه يحس، ويحب، ويطمح، ويأمل، ويتفكر، ويقسو، ويظلم، ويسالم، ويسامح، ولا يخلو بشر من ذلك، لكنها تزيد وتنقص بمقدار عوامل وراثية وبيئية، وربما يحل به أمر ما، يجعله ينصرف عن غيه، وسلوكه المشين، ويتلمس فضائل الأخلاق ومحاسنها، وهذا الشهر الكريم بيئة خصبة لتغيير النهج والسلوك الإنساني مع ذاته ومع غيره.
ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يقوم لصلاة الفجر في رمضان يمكنه أن يرى أنموذجاً لقدرته على عمل ما هو واجب عليه في رمضان، وسائر الأشهر والأزمان، ويجعله أيضاً يكشف أن لديه قدرة على التغيير والبناء، في ذاته والانطلاق إلى آفاق رحبة في مسيرته الحياتية.
كان هناك إنسان في العصر الحجري القديم الأدنى وبين الجليدي الثاني، وبين الجليدي الثالث والرابع أي قبل مائة ألف وخمسين ألف سنة، كان إنساناً شبه منتصب، كان لديه من العقل ما جعله بشكل شظايا مسنونة، على شكل رأس دبوس، ليصيد بها، وبعد انحسار العصر الجليدي الأخير أي قبل عشرين ألف سنة كان هناك الإنسان الفرعي العاقل المسمى النياندرتالي، وقد اختفى هذا الإنسان في أوروبا دون سبب معروف، ووجد الإنسان العاقل نفسه في الميدان ليفكر ويصنع الأنصال ويصقلها، ويرسم الزخارف، ويغير كثيراً من ثقافته إلى أن يصل إلى المخيمات قبل ستة عشر عاماً إلى تسعة الآلاف عام، ثم يكون أول تجمع بشري يعرفه العالم ما قبل التاريخ، وذلك حول القدس، ويسمى إنسان ذلك العصر الناتوفيين، نسبة إلى المنطقة تلك، وقد استطاع الاهتداء إلى الزراعة ونشرها في العالم.
الإنسان هو الذي يفكر ويتفكر، ويصنع، ويطور، ولهذا فقد كلفه الله بواجبات عباديه، تفوق جميع المخلوقات التي تسبح بحمده، ومنها صيام هذا الشهر الكريم، لأن الإنسان قادر على التقرّب إلى الله بما حباه من عقل، ومشاعر، وقوة بدنية أن يمتثل لأوامر الله، ويجتنب نواهيه، فهو القادر على الامتناع عن بعض الملذات، وهو القادر على استثمار وقته في الصلاة وقراءة القرآن، وهو القادر على مواصلة عمله في طلب الرزق، وعمارة الكون.
هذا الإنسان حباه الله اليقين للاستدلال بالفناء والموت، وكسائر المخلوقات، فالنجوم تموت وتولد نجوم جديدة، ومجرات تزول ويخلق الله مجرات جديدة، وهناك ثقوب سوداء تلتهم هذه الأجرام، وربما لتذهب إلى كون آخر، أو لصنع كون جديد، وهكذا، فالله هو الخالق والمبدع.
الإنسان البسيط في عمره القصير، سوف يفني بلا شك، فمن العجب وهو العاقل ألا يفعل الخير، وينشر التسامح والمحبة، ويجنح إلى السلام، ويترك ظلم العباد، وقتل الأبرياء، كما يفعل الإرهابيون، وكأن عقولهم أصبحت أداة يتلاعب بها أصحاب غايات، فلم يعودوا ذوي عقول تفكر، بل أدوات كالأيدي والأرجل. اللهم ثبت قلوبنا بالإيمان وارزقنا العقل ومحبة الخير.