حمّاد السالمي
ما دمنا في شهر الصوم الكريم، شهر البر والرحمة والمغفرة؛ ونشهد على مرّ أيامه ولياليه؛ التوجه الاجتماعي المحمود؛ لتفقد المعوزين والمحتاجين على صُعد عدة، مؤسساتية وفردية كذلك؛ لنتذكر أن بين أيدينا ثروة هائلة طائلة، لكنها في كثير منها معطَّلة ومعطِّلة في الوقت نفسه، ألا وهي أراضي الأوقاف التي تتمدد على مساحات شاسعة داخل كثير من المدن وعلى أطرافها، وحتى في بعض القرى الكبيرة. كيف نترك هذه الثروة دون تحريكها وتشغيلها، والاستفادة منها اقتصاديًا واجتماعيًا..؟
كتبت قبل اليوم؛ عن حالة مشابهة تتعلق بالأراضي البور داخل المدن، تلك التي تركها وهجرها مُلّاكها. نُشر المقال على حلقتين بهذه الصحيفة تحت عنوان: ( قِلّة دُور.. وجَور أجُور .. وأراضٍ بُور http://www.al-jazirah.com/2010/20100425/ar4.htm )، وذلك في 11 و18 من شهر جمادى الأولى 1431هـ، وها أنا أعود للكلام على وجه آخر أكبر وأعظم، وهو أراضي الأوقاف الرسمية، لعل وعسى أن تتحرك (الهيئة العامة للأوقاف) بشكل أسرع، فنراها وقد نسقت ووضعت من الأنظمة ما يكفل إنهاء حالة العطالة والبطالة التي تعيشها أراضي الأوقاف في عموم المملكة.
كثيرة هي أراضي الأوقاف التي تتوسط الأحياء في كافة المدن. هذه الأراضي؛ مُعَطَّلة ومُعَطِّلة في الوقت ذاته. مُعَطَّلة؛ لأنها باقية على حالها دون تعمير أو استثمار، بما يوحي للرائي أن أصحابها ليسوا في حاجة لتعميرها أو استثمارها. ومُعَطِّلة؛ لأنها تحد من انتشار العمران وتنظيم التخطيط، وزيادة؛ فهي تسهم بقدر كبير في التشوه البصري، وفي التلوث البيئي، وقد طالبت وطالب غيري؛ بفرض رسوم سنوية، أو زكاة تؤخذ من ملاكها حتى لو كانت تتبع إدارات حكومية، ما دامت دامرة غير عامرة. هذه الحالة تعاني منها كافة المدن في المملكة، ونلاحظها بحدة؛ في كل من جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف، ولا بد من حل لهذا المشكل الذي يحيق بهذه المدن.
جزء كبير من هذا المشكل أيها السيدات والسادة، يتمثل في أراضي الأوقاف؛ التي هي منذ عقود طويلة على حالها المزري.. مساحات كبيرة داخل المدن أو على أطرافها، أوقفها المحسنون، وتسلمتها إدارات الأوقاف في السابق، وهي اليوم تحت مظلة (الهيئة العامة للأوقاف) وهي ما زالت كما كانت باقية دون تحريك للتعمير أو التأجير أو التثمير. إنها أوقاف واقفة، بل هي مُعَطَّلَة ومُعَطِّلَة في الوقت ذاته. تحولت مع الزمن إلى زرائب وخرائب، تسكنها الكلاب الضالة، أو يتخفى فيها المتخلفون، ويجعل منها المجارون لها؛ مرامي لمخلفات العمائر والزبائل وغيرها، فهي مثل بقية الأراضي البور؛ تُعطِّل عمران المدن، وتعرقل توسعها، وتشوهها بصرياً، وتلوثها بيئياً.
لماذا تقف الهيئة حتى اليوم هذا الموقف السلبي من هذه الثروة الهائلة التي تملكها؛ مع أنه صدرت توجيهات سامية سابقة ولاحقة، بضرورة استثمار أراضي الأوقاف.؟!
إن استثمار هذه العقارات الكثيرة، والمساحات الكبيرة، في كافة المدن وخاصة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف، يتطلب إرادة قوية، وإدارة حازمة، والتصدي لهذا الأمر الملح؛ من قبل (الهيئة العامة للأوقاف)، للاستعانة ببيوت الخبرة في هذا المجال، وعقد اجتماعات تحضيرية، تضم كافة الجهات المعنية، وبيوت المال، وكذلك قنوات الاستثمار العقاري، وحصر هذه الأوقاف، ووضعها على خط الاستثمار والبناء الذي يقضي على سلبياتها، ويوفر للأوقاف ذاتها، أموالاً طائلة، للإنفاق منها على إدارة الجوامع والمساجد القائمة في المنطقة، وإنشاء وبناء المزيد مما تطرأ الحاجة إليه في المستقبل، وتوفير الدعم للأسر المحتاجة وأوجه الصرف في سبل الخير.
إن أراضي الأوقاف الموجودة في المدن؛ ثروة لا يمكن التقليل منها، ولا الاستهانة بها، وإنه مما يثير الدهشة والاستغراب، أن تبقى هكذا دماراً بواراً كل هذه العقود، دون الاستفادة منها، فالأمر لا يتطلب أكثر من إرادة وإدارة.. إرادة مدعومة، وإدارة مسئولة، ودعم الدولة لاستثمار أراضي الأوقاف؛ إرادة قائمة منذ سنوات طويلة، لكن الإدارة المسئولة؛ لم تتحرك بما فيه الكفاية، وجاء الوقت الذي تتحرك فيه وتعمل، بعد أن أصبحت للأوقاف هيئة مستقلة تتبع مجلس الوزراء، كي تقود بنفسها هذا الحراك الاستثماري الكبير.
«إذا أردنا حل مشكل الأراضي البور داخل المدن، فعلينا أن نبدأ بفتح ملف أراضي الأوقاف البور أولاً، ونشرع في حلها تعميراً واستثماراً، حتى نقدم المثل الجيد لبقية ملاك الأراضي البور، الذين نطالبهم بتعميرها، أو بيعها، أو دفع رسوم سنوية على بقائها على حالها.
تحدد (الهيئة العامة للأوقاف) رؤيتها في: (داعم رئيسي للنهوض بقطاع الأوقاف في المملكة)، وتقول رسالتها إنها: (تعزيز لمكانة الأوقاف في المملكة، والمحافظة عليها، وتنميتها، وتطويرها، وتنويع مصارفها، لرفع مساهمة القطاع الوقفي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق رؤية المملكة 2030). هذا كله رائع، وننتظر أن يترجم بشكل سريع على أرض الواقع، حيث أراضي الأوقاف ما زالت ( معطَّلة ومعطِّلة ).