د. حسن بن فهد الهويمل
في [رمضان] يتجه الخيرون المحظوظون إلى مضاعفة نوافل العبادات، وتلاوة القرآن، وتدبر معانيه، وتذوق جمالياته.
وينهض المفرطون في جنب الله، لتدارك الفوات، لأن شياطين الجن المثبطة لهم مصفدة. أما شياطين الإنس فتسرح، وتمرح، وتجري في مسارب المشاهد كالخدر.
الله سبحانه، وتعالى لحكمة بالغة، لا يعلمها إلا من شاء من عباده، خص بعض [الأزمنة]، و[الأمكنة]، و[الأناسي] بمزيد فضل، ضاعف فيها الجزاء، والعقاب. وفرض لها حقوقاً، وأحيا بها شعائر.
فالمقدسات الثلاثة:- [مكة]، و[المدينة]، و[بيت المقدس] شرفها الله:- {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}. لهذه الأماكن مزيد فضل، ولها حرمات، لا يجوز المساس بها، ولا الاستخفاف بقدسيتها.
لقد أدرك الصحابة رضوان الله عليهم مكانة تلك البقاع. حتى أن البعض منهم أقام بالحل خشية مضاعفة الإثم.
فـ[ابن عباس] رضي الله عنه، له سرادقان: أحدهما للعبادة داخل الحرم، وآخر للسمر، والتجارة خارج الحرم. وكلاهما متجاوران، يخرج من هذا، ويدخل هذا في آن.
والله الذي شرف هذه الأمكنة، شرَّف بعض [الأزمنة]، وجعل العمل فيها مضاعفاً.
كالأشهر الحرم، ويوم الحج الأكبر، ويوم عرفة، ورمضان، وعشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، وليلة القدر، ويوم الجمعة. فتلك أوقات شرفها الله وضاعف فيها الأجر، وفضلها على بقية الأزمنة.
ومثلما شرف بعض [الأمكنة]، وبعض [الأزمنة]، شرف بعض [الأناسي] اصطفاهم كالأنبياء، والرسل، والعلماء:- {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. والأولياء الصالحين:- [مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ]، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }. وجعل لهم مكانة. ورفع من أقدارهم، وصلى عليهم، ودعى إلى الصلاة عليهم، وحمَّلهم رسالة ثقيلة:- {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}.
بل وفرض عليهم عبادات لم يفرضها على سائر الناس. هذه الحالات الاستثنائية لا بد من أخذها بالاعتبار.
والرسل منهم أولو العزم، ومنهم دون ذلك، وواجبنا ألا نفرق بين أحد من رسله. لقد أنعم الله على عباده فتابع عليهم المواسم. إذا دخلوا في الأشهر الحرم، تسابقوا في الطاعات، وإذا أظلهم رمضان تخففوا من الالتزامات، وفرغوا للصلاة، وقراءة القرآن.
وإذا أظلهم الحج شدوا الرحال، يأتون المشاعر رجالاً، وعلى كل ضامر، يأتون من كل فج عميق {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.
وفي [الجمع] يغتسلون، ويبكرون، وينصتون للخطيب،. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
الناس يتسابقون في مواسم التجارة، ويضاعفون العمل، وينشئون الأسواق، ويحيون المناسبات. وما في ذلك من بأس، بل فيه أجر، ومثوبة، إذا أحسن الإنسان النية، والقصد، وأطاب مطعمه، ووقاه الله الشح، والغش، والسرف، والمخيلة:- [أطب مطعمك تجب دعوتك]. و[جسم نبت على السحت النار أولى به].
فالمؤمن الغني قوي، والمؤمن القوي أحب عند الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. وما عمرت المساجد، وما أنشئت الجمعيات، وحلقات تحفيظ القرآن إلا من الأثرياء الذين وفقهم الله، وتغلبوا على الشح:- {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
والإنسان مطالب بحفظ التوازن:- {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}.
فالله حين يحسن إلى الإنسان فإن عليه أن يحسن إلى من حوله من فقراء، ومساكين، ومعوزين. ولا سيما مساجين الإعسار، الذين أثقلتهم الديون.
شهر [رمضان] شهر عبادة، وصيام، وليس شهر أكل، ولهو، وسهر. لقد أسأنا فهمه، وجهلنا رسالته، ومن ثم تحول إلى زمن أكل مسرف، وسهر مضر، ولهو آثم.
يتفنن فيه الإعلاميون فيملؤون فراغ الغافلين، بما يفوت الفرص الذهبية.
ويتفنن فيه الطهاة بما لذ، وطاب مما يملأ المعدات، ويوهن العزمات.
ويتفنن فيه الممثلون بما يجذب الناس، مستخدمين ما وهبهم الله من براعة في الحركة، وإثارة في القول. و{رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. يحمل بضاعته، وقد يرحل بها. وأي بضاعة يعرضها. إنها قربات إلى الله.
دعونا نتبهل المواسم، ونتلقاها بعزمات، لا تدع لخطة دون استثمار.
النفوس ثلاث:-
- لوَّامة.
- وأمَّارة.
- ومطمئنة.
والإنسان مسكون بالشهوات، والغرائز، والأهواء، ومغرم بالشبهات.
فإذا جاء رمضان قلص تلك النوافذ، وأوصد بعضها، وأيقظ النفوس اللوامة، وقمع الشهوات، وصفد الشياطين.
ومن ثم يرتفع رصيد الروحانيات في رمضان، وتمتلئ المساجد، ويشهد الجماعة من لم يشهدها فيما سواه.
وقد يترك أثراً في نفوس الكسالى، والمسوفين، ويُعَدِّل في سلوكهم، إنه فصل مراجعة، وحساب للنفوس الأمارة بالسوء. إنه تطهير للجسم من رواسب الأطعمة. وتطهير للصدور من رواسب الآثام. ولا يتم ذلك إلا حين ندرك الأحكام، ونحسن التصرف.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، وما ذلك على الله بعزيز.
اللهم دلنا على الخير، وأعنا عليه، ولا تحرمنا من استثمار مواسم الخير، والعطاء.