د.فوزية أبو خالد
1
تتعدد أشكال السفر بتعدد غاياته ووجهاته ووسائله وظروفه..
فهناك سفر المعرفة، وهناك سفر المتعة، هناك سفر الاغتراب، وهناك سفر الاستقرار، وهناك سفر اختياري، وهناك سفر إجباري، وهناك سفر مرض، وهناك سفر الشفاء.. إلى ما لا يحصى من أنواع السفر إلا أن هناك قاسمًا مشتركًا بين كل أنواع السفر مهما تعددت، وهو مشترك الأسئلة التي يطرحها علينا السفر. وربما نشترك هنا في تقليب بعض أنواع السفر، ولمس أسئلتها.
2
كان الأفق قد شرب القطرات الأخيرة من شمس غروب الشهر الميلادي السابع على الحدود، أو بالأحرى اللاحدود بين النمسا وألمانيا، وكانت سيارة أوروبية الصنع تسير بأسرة صغيرة مع أطفالها على الطريق البوفاري في رحلة استكشاف لمواقع قصص الأطفال والأساطير الشعبية مما كتبه الأخوان جريم، ومما قامت بإعادة إنتاجه وزادته شهرة أفلام والت ديزني كحكاية رابونزل, وبياض الثلج، وذات الرداء الأحمر، وسندريلا، والأميرة والضفدع، أو قبلة الحياة، ومسرحية الفئران والنهر، وسواها مما تُرجم لمئة لغة.
إلا أنه ما ادلهم المساء وسرت رهبة الظلام إلا وسأل محمد فجأة بصوت طفولي، لا يعبأ بإخفاء الخوف، وبلثغة سنواته الثلاث، ولكن بلغة إنجليزية صافية: «هل نحن في وسط اللامكان؟» Are we in the middle of nowhere?
كان السؤال الطفولي ببراءته ليس سؤالاً عن المكان على وجه التحديد، ولكنه سؤال عن الأمان على وجه الدقة. فأن نكون في أي مكان كان ليس مشكلة، ولكن المشكلة هي ألا نكون في مكان أو نكون في اللامكان، بما يعني عدم وجود بوصلة ولا خارطة طريق، وبما يعني أن المعادل الموضوعي لذلك هو الضياع البواح الذي يبدو أن الأطفال ببراءة حدسهم يتحسبون له أكثر من الكبار الذين قد تمنعهم مكابرتهم من الاعتراف بخطورة ضياع البوصلة أو انعدام خارطة الطريق.
كان سؤال الطفل يومض كفنار بعيد، لا نجد سبيلاً إليه فنجتهد مع ضعف الإرسال أحيانًا في تحري «النفيجيتر»، ونغذ السير في بصيص السؤال. فإحدى متع الترحال مع الأطفال ليس فقط ضجيج السيارة بصوت العصافير، وليس تخفيف السرعة وخفض أجنحة الرحمة لتحفهم وحسب، بل أيضًا التقلب في نعمة الأسئلة.
أين ينتهي هذا النهر؟ ومَن حفر هذه البحيرة؟ لماذا النوارس تحب البحر؟ لماذا تصنع الساحرة بيتها من حلوى القطن؟ ولماذا تلتهم الطيور الجارحة فتافيت الخبز التي نثرتها الطفلة علامات لتدلها على طريق العودة من الغابة للبيت؟!
3
كثيرًا ما أتذكر ذلك السؤال الطفولي، ليس فقط لأن في نيتي المؤجلة أن أكتب عن تلك الرحلة التي كانت عودة إلى ينابيع ذاكرة حكايات الطفولة؛ لأضمها للجزء الثاني من كتابي كمين الأمكنة، ولكني أتذكره بقدر ما ينكأ فينا واقع الحال العربي سؤال خارطة الطريق، وسؤال البوصلة، وسؤال الأسئلة عن ضوء ما في آخر النفق.
4
طالما يذكّرني سؤال السفر بسيرة إدوارد سعيد بعنوانها الملتبس في ترجمته غير المعبرة بدقة «خارج المكان» Out of Place بما لا يتطابق معها - في رأيي - كسفر فريد من نوعه (بكسر السين)، يحمل مفارقة قلق الاستقرار وطمأنينة السفر (بفتح السين) على عكس المفترض عادة.
والسر في ذلك - على ما أظن - يرجع إلى أن سيرة إدوارد سعيد في ذلك الكتاب لم تكن سيرة شخصية بقدر ما كانت سيرة شعب وسيرة مرحلة وسيرة أحلام وسيرة المكان، ليس ككمين وليس كساحة معركة، ولكن كخشبة مسرح من ناحية، وكملاذ وملجأ وبيت أول وأخير، وكفردوس مفقود من الناحية الأخرى. بما عبّر عنه بهذا المعنى سعيد نفسه بقوله: «هذا الكتاب سجل عالم مفقود أو منسي، ولكنه سجل مكان متجسد وباقٍ، يتحدي السفر، ويتحدى الرحيل بقدر ما يتحدى القلق الاستقرار».
*****
5
إلى أين يا حبيبي وأهلي
يأخذنا طائر الوقت
إلى أين يا كتابي وحبري
تحملنا رياح الرحيل
إلى أين يا جمل المحامل
تتجه بنا القافلة
إلى أين يا حادي العيس
يسير بنا سهيل
إلى أين يا «سيري»
نذهب هذا النهار
إلى أين يا «قوقل»؟
يسري بنا الليل
6
هل السفر قلق مؤقت من ترتيب أمور استقرارك بالموقع الجديد أو اطمئنان غير دائم لمتعة التغيير, على ما في الموقفين من قياس دقيق لنسبة الصبر في دمك مقابل نسبة التحدي؟ ويبقى عزاء المسافرين وغير القادرين على السفر معًا.. أننا جميعًا، وفي كل
حين، على سفر؛ فليس هناك خلي من تجريح الحنين.