عبدالعزيز السماري
أثار اعتذار أحد رموز الصحوة الدينية، كما يُطلق عليها، عاصفة من الجدل، وكان محور الاعتذار أن الصحوة ضيقت على المجتمع، وفتحت الباب للتطرف الديني، والتسلط على الناس، وقد يكون ذلك في بعض جوانبه صحيحاً، لكن الأمر له أبعاد أعمق، وأكثر تعدداً من إلقائها على عامل واحد، فالتطرف لم يكن كائنًا غريباً في تاريخنا الحديث، بل كان عمود التفكير وحارسه الأول في المجتمع، ولو رجعنا إلى الماضي لوجدنا أن المجتمع قاوم مختلف التطورات والاكتشافات العلمية، وحارب التحديث، وكانت الفتاوي سلاحهم ضد الجديد بدءًا من الميكرفون إلى الإنترنت، وكان ذلك قبل ظاهرة الصحوة.
المختلف في ظاهرة الصحوة الدينية في الثمانينات الميلادية أنها أدخلت التنظيم والدعاية واستخدام وسائل الإعلام لنشر التطرف الجديد، لكنها كانت امتدادًا للسلفية المتشددة ولكن بتنظيم إداري إخواني، فقد كانت تغلق مختلف الأبواب أمام أي جديد، ولم تكن حركة ذاتية أو اجتماعية، بل واكب صعودها حشد عالمي ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعية، وساهمت حرب أفعانستان في إشعال شعبيتها بعد صعود حركات الجهاد الإسلامي، وانتصارهم بمساعدة الأمريكان في إخراج الروس من أفغانستان.
نقطة التحول كانت في التسعينات الميلادية، ذلك بعد احتلال الكويت، وذلك عندما بدأت مرحلة تسييس المواقف الدينية المتطرفة لخدمة منظمات وفئات لها أطماع سياسية، وكانت بداية لصعود لما يُطلق عليه بالإسلام السياسي المعارض، الذي خرجت من عباءته ظاهرة الإرهاب والدعوة إلى التغيير بالقوة، وكانت المفارقة الأهم في حياة الصحوة الدينية أنهم أول من وقف ضد ظواهر الإعلام الجديد والبث الفضائي ووسائل الاتصال، لكنهم أجادوا استغلالها، بل تحولوا إلى نجوم للساحة الإعلامية في وقت زمني قياسي.
لم يكن في طرحهم أفكاراً جديدة، فقد كانت مكررة، ومشابهة لمراحل التاريخ الماضية، وقد تعلمنا من التاريخ العربي الإسلامي أن الصراع السياسي يقوم على أرضية الغضب الديني والحراك الديني السياسي، لكن الجديد كان في ثورة وسائل الاتصال، فقد كان لأفكارهم صدى في عقول الناس، وكان ذلك متوقعاً، فالناس تربوا جيلاً بعد جيل على القراءة الدينية المبنية على التشدد والتفكير الأحادي والإقصاء، ولهذا لم يجدوا صعوبة في تلقي الأفكار في قالب إعلامي مختلف.
ظاهرة تسييس الدين لم تكن جديدة على تاريخنا الطويل، فقد بدأت منذ الزمن الأول، وبالتحديد بعد الفتنة الكبرى، وبعد خروج التكفير كظاهرة سياسية، وقد استخدمها الخوارج في صراعهم الأول، ومن ثم أصبحت العمود الفكري لمختلف الحركات السياسية الدينية في تاريخ المسلمين، فالسياسة كانت تقوم على تكفير الآخر، ومن ثم الصعود على أرقاب الناس إلى السلطة.
من خلال هذه الزاوية تبدو الرؤية في منتهى الوضوح، فقبل الفتنة الكبرى لم يكن هناك أي إشارة لمشروعية تكفير الإنسان المسلم لأخيه المسلم، ولكن بعدها تحول إلى شعار سياسي مؤثر في عقول العوام، ومن هناك بدأت ما يُطلق بتاريخ الإسلام السياسي، وقد أخذت موجاته مدًّا وجزرًا في مختلف مراحل التاريخ، ولهذا أطلق المؤرخ العربي الشهير إبن خلدون عليه بالدورة العصبية، وقد كانت مجرد حلقات متكررة تبدأ بتكفير وصراع مسلح، وتنتهي بنفس المشهد.
ولهذا بدت لي فكرة الاعتذار وكأنها تختزل المشهد في قالب واحد، فالمسألة وقصة الصراع لم تكن وليدة الأمس القريب، ولكنها تمتد إلى أعماق التاريخ، وقد كان لفكرة الاعتذار رواجاً مختلفًا ومتعددًا، ربما لأننا وصلنا إلى نهاية التاريخ الإسلامي المتكرر، أو بالقرب من مراحله الأخيرة، فالتكرار وإعادة السيناريوهات السياسية اقتربت نهايته، ولا بد أن نصل كحالة عربية مضطربة إلى مرحلة الاستقرار السياسي الطويل الأجل، الذي يخرج للأبد من حلقات ودورات الاقتتال والعنف والتكفير المتوالية..