«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
فقد المشهد الوطني يوم أمس، علي بن حسن الشاعر، وزير الإعلام سابقاً، (1931- 15 مايو 2019)، الذي ولد بالمدينة المنورة، ووافاه الأجل بها يوم أمس، حيث شيعه جمع كبير من المواطنين، الذي تقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود أمير منطقة المدينة المنورة، حيث أديت الصلاة على جثمان الفقيد بعد صلاة عصر يوم أمس، بالمسجد النبوي الشريف، في وداع لمسيرة عملية حافلة بالعطاء الوطني، عبر محطات عسكرية، وأخرى دبلوماسية، ومراحل إدارية، كان الشاعر خلالها صاحب العطاء المتدفق إخلاصا لقيادته وتفانيا في خدمة بلادنا، ما جعل من علي الشاعر، رجل دولة، ورمزا من رموز رجالات المملكة العربية السعودية، الذين قدموا خلال مسيرتهم العملية ما يتجاوز المهام الوظيفية التي أسندت إليه في المملكة وخارجها، إلى صاحب رسالة وطنية، حرص الشاعر طيلة مسيرته العملية على أدائها على الوجه الأكمل ما جعل منه رمزا من رموز الإدارة والدبلوماسية في المملكة العربية السعودية.
عقود في الإدارة!
تميزت شخصية علي الشاعر - رحمه الله - بالصرامة العملية، التي مردها الجدية في العمل، والحرص على الإتقان، وأن تعطى كل مهمة أسندت إليه حقها من الإتقان والاهتمام بأدائها أكمل صورة، طيلة حياته العلمية التي ظل متنقلا لعقود ما بين منصب إداري وآخر، إذ يجمع كل من عرفه في ميادين الحياة العملية من محطة إدارية إلى أخرى، ومن مهمة إلى غيرها داخل المملكة وخارجها، بأن الشاعر جمع بين الانضباطية في العمل بما تتطلبه من جدية وحرص وتفان، وبين إنسان ذو خلق ورحابة صدر ورقي في التعامل مع كل من جمعتهم معه في مضمار الحياة الوظيفية مهمة عملية، ما جعل من الشاعر رجل الإدارة الذي عده العديد ممن تفاعلوا مع خبر فقده بأن الشاعر أحد الوجوه الإدارية التي وصفها بالنموذج الإداري، الذي يضع من مقاييس الأداء الوظيفي وما تفترضه من قيم أخلاقية ومهنية إلى واقع يتعامل بها مع من عملوا معه، ما جعلهم يصفونه بفقيد المشهد الوطني، وأحد أعلام الإدارة في المملكة، فيما وصفه آخرون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بأنه صاحب رؤية إدارية فذة، أول ما يميزها الإخلاص في العمل.
وقد تسنم خلال مسيرته الوظيفية العديد من المهام التي تدرج بها عبر المرحلة الأولى العملية من حياته في القطاع العسكري، فقد تم تعيينه كبير معلمي المدرسة العسكرية بالطائف، فمدير قسم الطبوغرافيا في إدارات العمليات العسكرية، ثم قائدا للمدرسة الثانوية العسكرية في المدينة المنورة، ثم قائداً لكلية الملك عبد العزيز الحربية في الرياض، حيث تم تعيينه بعده ملحقا عسكريا لدى باكستان، ثم تكليفه ملحقا عسكريا لدى لبنان، لمدة إحدى عشرة سنة، حتى نهاية عام 1975م، ثم عين سفيراً للمملكة في لبنان، من عام 1976م، حتى نهاية عام 1982م، ثم عين وزيراً للثقافة والإعلام لمدة 14 سنة، ليعين بعد ذلك مستشاراً بالديوان الملكي بمرتبة وزير.
الإدارة بالرسالة!
إن ما يميز فقيد المشهد الوطني علي الشاعر، تجاوزه لمفاهيم المسيرة الإدارية التي تقف عند مستوى الأداء الوظيفي، إذ يعد الشاعر عبر مسيرته الإدارية ما بين إدارة وأخرى (أنموذج) إداري، ترك أبرز الأثر الإداري في المواقع الإدارية التي عمل بها، ما جعل من الشاعر إدارياً له رؤيته الإدارية الخاصة، في كل مهمة إدارية كلف بها، وذلك من خلال العديد من العوامل التي جعلت من الشاعر ذلك النموذج الإداري في إدارته للمؤسسات والهيئات والمهام التي أسندت إليه داخل المملكة وخارجها، التي يأتي في مقدمتها ما يمتلكه بالفطرة من روح قيادية وثابة بوصفها إحدى الصفات التي تتميز بها شخصيته، إلى جانب ثقافته وسعة اطلاعه وخاصة في شؤون الإدارة ومدارسها المختلفة، العسكري منها، والمدني، ما جعل من ذهنية الشاعر ذهنية تكاملت فيها الكثير من المعارف بالكثير من الخبرات الإدارية الناجحة، ما جعل منه - رحمه الله - شخصية إدارية لها حضورها الخاص، وقدراتها المتفردة تبعا لهذه المقومات الإدارية، التي يجتمع إليها البعد الإنساني في شخصه، ما جعل من علي الشاعر أحد أعلام الإدارة ورجالاتها في المملكة.
وتبعاً لهذه الصفات والمقومات التي يمتلكها علي الشاعر، التي تجاوز معها البعد الوظيفي، إلى بعد تمثل في شخصيته الإدارية، التي تتمثل في «الرسالة» الإدارية التي قدمها الشاعر عبر عقود من المسيرة العملية في الإدارة ما بين قطاع وآخر، داخل المملكة وخارجها، ليترك وبأسلوب غير مباشر في كل قطاع رسالة إدارية من خلال ما تميز به حسه الإداري، وفكره القيادي، ومقوماته الشخصية على المستوى الإنساني، وعلى المستوى الإداري، من التفاعل مع كل حوله عبر فضاء الإدارة في رحاب الوطن، ما جعل من الشاعر مسهما ومساهما في العديد من آليات وأدوات التطوير، وجودة الأداء عبر ممارسة إدارية سعى أن يبثها في كل من حوله من قيادات إدارية عملوا معه خلال تلك العقود، حيث أسهم الشاعر خلال مسيرته الإدارية في تأسيس المدرسة العسكرية، في المدينة المنوّرة؛ كما ساهم في تأسيس الملحقية العسكرية في باكستان؛ إضافة إلى إسهامه في تأسيس الملحقية العسكرية في لبنان، إلى جانب اشتراكه في لجنة المتابعة العربية لأحداث لبنان، إضافة إلى مشاركته في اللجنة الرباعية للمصالحة اللبنانية، حيث أسهم أيضاً عبر هذه المسيرة في إنشاء القناة الثانية، للتلفزيون السعودي.
وسم وأوسمة
وكان ولا بد لهذا الوسم الإداري، عبر عقود من المسيرة التي قضاها علي الشاعر في الإدارة من محطة إلى أختها، ومن مهمة إدارية، أو أخرى عسكرية، أو دبلوماسية، من بلد إلى آخر، في وسم سيظل رسما يحفظ لعلي الشاعر مسيرة خالدة في ذاكرة المشهد السعودي، التي أكد حضورها، وعزز ريادتها الإدارية، ورمزها الوطني، ما حظي به الشاعر - رحمه الله - من احتفاء وتكريم وتقدير، من قبل قيادة المملكة، التي انتهجت منذ الملك المؤسس - طيب الله ثراه - تكريم الرموز من أبناء الوطن، والبارزين في عطائهم، الأوفياء لدينهم وقيادتهم ولوطنهم ومواطنيه من خلال مهامهم ومسؤولياتهم المناطة بهم، ما جعل الشاعر أحد المكرمين بوسام الملك عبدالعزيز، من الدرجة الثالثة، في 26-9-1393هـ، وتكريمه أيضا بوسام الملك عبدالعزيز، من الدرجة الممتازة، في 13-7-1398هـ، كما تم تكريم الشاعر بوشاح الملك عبدالعزيز، من الدرجة الثانية، في 16-3-1405هـ، فيما نال خلال مسيرته العملية خارج المملكة بالعديد من أوسمة التكريم من قبل العديد من الدول العربية، تقديراً منها لإسهامات الشاعر، وعرفاناً بما قدمه خلال المهام الخارجية التي أسندتها إليه حكومة المملكة، حيث كُرم الراحل من العديد من الدول بأوسمة مختلفة، إذ كان من الدول التي كرمته مصر، العراق، الأردن، باكستان، لبنان، وغيرها، التي تجسد معالم النجاحات التي حفلت بها حياة علي الشاعر، خلال عقود من العطاء المتدفق، الذي لم يقف يوما عند حدود معالم الوظيفة، أو يحد من فضاءات عطائه حدود مرحلة عملية أو إطار إداري، ما جعل من الشاعر بهذا التكريم على المستوى الوطني، والعربي، إحدى الشخصيات الإدارية التي ستظل مسيرتها حاضرة بنجاحاتها، مطلة على ذاكرة الأجيال بما حفظ لها ذلك من أوسمة الفخر والتقدير والعرفان.
من وحي الإدارة!
وقف علي بن حسن الشاعر، في حج عام 1994م، عندما كان حينها وزيراً للإعلام، ملقياً خطابه إلى وفود من دول عربية وإسلامية، واصفاً فيه إشكالات عدة، حذر منها آنذاك، بما تمثله شخصيته الإدارية الفذة، واطلاعه العميق على مجريات الأحداث، وما تميزت به شخصية الشاعر الإدارية من وعي وعمق واستقراء، اجتمعت فيها المعرفة إلى سعة الاطلاع، والحس الإداري بالخبرات الإدارية التي اكتسبها خلال عقود من حياته في الإدارة، التي اطلع عليها عن قرب ووعي وعمق بالعديد مما يشهده العالم العربي والإسلامي، إذ جاء في خطابه قوله: إن الشرور قد استشرت، وتمادى الأجراء في غيهم وعتوهم، وللكلمة تأثيرها في الرأي العام سلباً أو إيجاباً، ومعركة العصر سلاحها الإعلام، فنحن لو أخذنا هذا الواقع من منظور إسلامي، ونظرنا في مرآة الذات، لوجدنا أن العالم العربي على شيء من التقصير في تصحيح العقيدة الإسلامية، وتوضيح تعاليمها، ونشر فضائلها، وأهدافها الخيرة لخير البشرية، وهذا يحتاج منا جميعاً إلى وقفة عربية نراجع من خلالها مواطن الخلل بما حل بأمتنا من الكوارث والنكبات التي يعانيها إخوة لنا في مختلف الأقطار والأمصار، ومن هنا نرى لزاما علينا أن نجند أقلامنا، ووسائل إعلامنا، لهذا الواجب، بأسلوب إسلامي حضاري، مترفع عن الإسفاف، دونما مجاراة للأساليب التي نواجه بها.