د. حمزة السالم
عنوان المقال، مثل أجنبي سمعته فساقني لكتابة مقال اليوم. المنطق الفلسفي أمر والمنطق التطبيقي أمر آخر. فالمنطق الفلسفي هو الأفلاطونية، باختصار. فالمنطق الفلسفي هو وضع نظريات من تخيلات عقلية، كمنطق الشيوعية. متى ما مُحصت على أرض الواقع، تبين بأنها ما كانت إلا خيالات موسوسين. وأما المنطق التطبيقي فهو تسجيل مشاهدات لعلاقات بين أمور واقعية مشاهدة، ثم تُختبر صحة الربط المنطقي بينها بعد ذلك، فإن صح الربط صارت نظرية تطبيقية.
لا يمكن أن يوجد تطبيق ناجح لا يسبقه منطق. فهو كتشخيص الطبيب الماهر الكفؤ للمرض قبل إعطاء العلاج، فتراه يسأله حتى عن تاريخ أجداده في أمراض لا يبدو لها علاقة بالمرض القائم، ثم بعد ذلك يكون تشخيص المرض، ثم وضع خطة علاج مرنة قابلة للتحول لبدائل أخرى، ثم التنفيذ يكون على يد الجراح أو الصيدلاني.
إذا فالتخطيط للحاضر يبدأ من الماضي لا من الحاضر، ولا يتوقف عنده بل يتعداه للمستقبل، ولا يقتصر على الظاهر ثم يتجاوز عن الباطن. أي لا تُستخدم المعلومات الخاطئة التي قد يكون المجتمع قد جمَّل نفسه بها وهي غير صحيحة، كمؤشرات مزينة وإحصاءات مزخرفة، ثم يعود بعد ذلك ويصدقها.
فالتخطيط الكامل الذي يُقدم الحل، لا يكون إلا بعد أن سبقته معرفه بالأصول التاريخية والثقافة المحلية للمنظور فيه، سواء أكانت بيئية أو اجتماعية أو صناعية أو سياسية أو تعليمية. فالحل الذي لا يُسبق بدراسة شاملة للأصول التاريخية وغير المسبوق بدراسة تاريخية لثقافة المجتمع وتغيراتها عبر الزمن وأسبابها، لن يستطيع أن يحدد إمكانيات المجتمع العقلية ومستوى الانضباطية الممكن الوصول إليها، وبالتالي مدى استطاعته للمنافسة في عالم التقدم اليوم. وبدون ذلك فستُهدر الثروات الإنسانية والبيئية والمالية.
فلو تأملنا مثلا صناعة الحديد في بلد ما، كمثال تجريدي، فنرى هل أنتجت صناعة الحديد في ذلك البلد نتاجاً إنسانياً وتقدماً عقلياً كانت له آثار إنتاجية تضاعفية على المجتمع عادت بأضعاف ما قدمه المجتمع من أموال لدعم إقامة المصنع؟ أم أنها عادت بعوائد على ملاك المصنع فقط، مع حديد في الأسواق يمكن شراؤه من العالم بأسعار منافسة.
وأمامنا روسيا وكوريا، كلاهما قام على صناعة الحديد والصلب ابتداء، وكلاهما كان يعيش حكمًا ديكتاتوريا! ثم افترق البلدان فالحديد والديكتاتورية قادت كوريا لمصاف أكثر الدول في العالم تقدمًا حضاريًّا ومعيشيًّا وتعليميًّا وإنسانيًّا وسياسيًّا. ذاك أن العسكر رفضوا ديمقراطية أمريكا، وقالوا نحن أعلم بأنفسنا منكم. فغاضبوا حليفهم الأول، وتولى العسكر الحكم، وأقاموا الصناعات الثقيلة ثم سلموا الأمور تدريجيًّا للنظام الديمقراطي وللسوق الرأسمالية. وصدق المثل: «أهل مكة أدرى بشعابها».
أصبحنا اليوم، نحن العرب، إذا تحدث عاقل بحجة ومنطق انبرى لقوله الآخر ليقول هذا مجرد تنظير. فكلمة التنظير عندنا كلمة لها أثر سحري حجتها غالبة، فمن تاه منطقه أو ظهر دجله أو بان جهله، أو غلبه حسده، اكتفى بها فكفته.