محمد ملهي السحيمي
عاش أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- في القرن الثالث الهجري ومرَّ بعدة تحولات فكرية عبر مراحل عمره المختلفة، ثم أراد الله تعالى بعد ذلك رجوعه إلى المنهج الحقِّ، بل وإلى الانتصار لمذهب السلف والدفاع عنه والتأليف في ذلك.
والناظر في سِيَرِ أهل الكلام يلحظ أنَّهم بلغوا من الحيرة والاضطراب ما الله به عليم، لما يرونه من فساد أدلتهم. ولهذا السبب رجع جملة منهم في نهاية المطاف لمذهب السلف، وهذا ما جرى للأشعري -رحمه الله- فقد غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً يراجع فيها نفسه، ومنهجه، وأفكاره السابقة، ثم خرج من بيته وصعد المنبر وقال: «معاشر الناس... انخلعت من جميع ما كنت أعتقده، كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به»
قصة هذا العالم الجليل يجب الوقوف عندها كثيراً لما فيها من الفوائد والعبر لعلماء لم تأخذهم في طريق الحق لومة لائم، همهم الأول والأخير هو البحث عن الحقيقة، وعن المنهج السليم، وعندما وجدوه لم يمنعهم من اتباعه (المكانة التي كانوا عليها). كان أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- رأس المعتزلة لمدة أربعين عاماً ولم يمنعه ذلك من ترك منهجه القديم واتباع المنهج الحق، وقام بخلع ثوبه على المنبر إشارة منه إلى خروجه من تلك الأفكار كخروجه من هذا الثوب.
الجميلُ في قصة هذا العالم الجليل أنه لم يكتفِ باتباع المنهج الصحيح بل سخر وقته وعلمه لنقض الأفكار القديمة وتبيان ما فيها من خلل وأخطاء، واعترف على المنبر أمام الحاضرين بأنه بريء من تلك الكتب ومن ذلك المنهج السقيم، وظلت قصة ثوبه تروى حتى يومنا هذا لرجال صدقوا الله فيما عاهدوا عليه. قصةٌ، تكمن أهميتها، في توضيح كيفية المراجعة الفكرية الصادقة التي يتبعها العمل الجاد على معالجة الآثار التي سببتها تلك الأفكار.
كم نحتاج في زمننا هذا إلى أمثال أبي الحسن الأشعري؟ وكم من داعية نشر أفكاراً سقيمة ثم انسلَّ منها ولم يعد يكررها بل ويجحدها إذا ضاقت به ألسنة الناس، وبعضهم يدعي توبته منها ولكنه يعجز أن يخرج أمام الناس ويتبرأ في العلن من تلك الأفكار.
يوجد بلا شك بعض الاستثناءات ومنها قصة العالم السعودي الشهير الذي كان يلقب بـ(سلطان العلماء) وذلك لخطبه الحماسية في تهييج جيل الصحوة. ترك ذلك العالم الجليل منهجه القديم وأصبح من أكثر العلماء محاربةً للحزبية وبقية التيارات المشبوهة. يقول هذا العالم حفظه الله: كان مسجدي يعج بالشباب المتحمسين لسماع الخطب الانفعالية التي تهيج العواطف، وترفع الشعارات الحزبية باسم الدين. ولكنه بعد ذلك، ترك تلك الأفكار المنحرفة وبدأ يحث طلابه على طلب العلم الشرعي وقام يدرس أمهات الكتاب لمن أراد منهم الفائدة والثواب. يقول الشيخ: حين بدأت في تدريس هذه الكتب النافعة لم يبق في مسجدي سوى بعض الطلاب لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ولكنهم يعدلون عندي المئات من الشباب العاطفي الباحثين عن الإثارة السياسية والحماس الحزبي ولا يهمهم طلب العلم الشرعي أو الجلد في هذا الطريق الطويل.
هذا ما يتعلق بالشيخ الذي كان يسمى «سلطان العلماء»، وهذه الألقاب بالمناسبة، يطلقها الصحويون على كل من يتبع منهجهم فتجد من بينهم «ابن القيم الصغير» و»ابن تيمية العصر» و»سلطان العلماء» وغيرها من الألقاب المجانية التي يطلقها من لا يملك لمن لا يستحق.
طبعاً لا داعي للتذكير أن هذا الشيخ الجليل بعد أن ترك منهجهم غيروا لقبه من «سلطان العلماء» إلى «ماسح بشت الأمراء» لأنه ترك منهجهم وأهدافهم الخبيثة. وطريقة عقوقهم مع هذا الشيخ ليست غريبة على أصحاب الهوى وأعوذ بالله من اتباع الهوى. الولاء والبراء عند هؤلاء قائم على التزام طريقتهم، مثلهم في ذلك مثل غيرهم من المذاهب المخالفة التي ترفع شعار (لا تعترض فتنطرد).
من الغريب أيضاً، أن بقية رموز الصحوة لم يتخلوا بشكل صريح عن مناهجهم الردية، ومسالكهم السابقة، حتى بعد الضربات الموفقة لقوات الأمن السعودي، ورجال الفكر والعلماء، الذين تضافرت جهودهم وجهود الشعب السعودي النبيل في مكافحة أفكارهم المتطرفة. وتحت وقع هذه الضربات الموجعة توارى رموز الصحوة عن الأنظار، وبعضهم ركب الموجهة وقام يندد بالإرهاب من باب نفي التهمة عن نفسه. ولا مانع كذلك، من الخوض مع المطبلين مع قليل من المدح البارد، ودس العبارات الغامضة أثناء التعليق على هذه الجهود.
يحتار الحليم في حقيقة هؤلاء؛ هل هم فعلاً تركوا منهجهم القديم أو هو من باب فقه المرحلة الذي هو أحد ابتكاراتهم الدينية بحيث يحق لأتباعهم الانحناء في بعض المراحل الصعبة حتى تمرَّ العاصفة، وما أن يُكتَب لهم التمكين، وهو بالمناسبة آخر مرحلة من مراحل فقههم المشبوه، حينها يكشرون عن أنيابهم ويكشفون الأقنعة عن حزبيتهم الخبيثة.
بعض رموز الحركيين أكل الطعم وما إن هبت نسمات الربيع العربي حتى ثار بالخطب الرنانة التي تبشر بقرب ظهور الخلافة وقال بالنص: «أني أراها رأي العين»! وكشف بشكل واضح في تلك الخطبة الواضحة» وهذا الوضوح ليس من عادتهم «ولكنه كشف عن حزبيته المنتنة، التي ذهبت أدراج الرياح مع انهيار ما يعرف بمشاريع الشرق الأوسط الجديد. طبعاً ليس هناك حاجة أن أذكركم أن هذا الشيخ (قبض الأرض) بعد هذه الانهيارات وصار يمشي «جنب الحيط» حسب قواعد فقه المرحلة.
كان الجميع يقول طالما أن هؤلاء تركوا منهجهم القديم يجب أن نشجعهم على ذلك من باب (عفا الله عمّا سلف) وكنا نرد ونقول: لا ندري عن حقيقة هؤلاء، وحقيقة تركهم لتلك المناهج، ولا يعلم النوايا إلا الله وبخاصَّة أن مسألة «التقية» هي إحدى أساسيات منهجهم السقيم. وكنا نطالب دائماً، إن كان صحيحاً ما يدعون عليهم إعلان ذلك صراحة أمام الجميع، بدون إنكار أو تلبيس أو (لف ودوران)، والتبرؤ نصاً وعلناً من كتبهم وأشرطتهم القديمة وأن ما ذكر في كل شريط (كاسيت)، وكل محاضرة، جميعها تحدد بالاسم والتاريخ ثم تفند واحدة تلو الأخرى مع تكرار التنبيه على أن ما ورد فيها مجرد مراهقة سياسية مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، وعلامة الصدق في التوبة بيَّنها الله تعالى في كتابه بقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
باختصار نريدهم أن يتبعوا طريقة أبي الحسن الأشعري عندما ترك منهجه الفكري واتبع المنهج الصحيح وقام بخلع ثوبه أمام الناس معلناً خلعه للمنهج القديم كما يخلع هذا الثوب. ولم يكتف بذلك، بل صنَّفَ الكتب العديدة في نقض ذلك المنهج ولم تمنعه زعامته من إظهار المنهج الحق. لذلك، نريد من رموز الصحوة أن يخلعوا مشالحهم القديمة ويوضحوا للناس أنهم خلعوا تلك الأفكار كما يخلعون هذه المشالح، وأن يسخروا بقية حياتهم للتكفير عن تلك الأضرار التي سببوها للمجتمع وذلك من خلال ردهم بأنفسهم على كتبهم وأشرطتهم القديمة وتبيان ما فيها من طوام.
وفيما يتعلق بهذا الموضوع، يجب أن نشيد بما قام به أحد الدعاة المشاهير -حفظه الله- في بداية شهر رمضان لعام 1440هـ عندما أعلن إعلانه الشهير على منصة التلفزيون، وأمام ملايين المشاهدين، وهذه بلا شك خطوة جبارة إلى الأمام. نسأل الله له الثبات وأن يعينه على الهجوم الذي سوف يشن عليه من «أنصار الأمس» كما شنوه من قبل على «سلطان العلماء». ولكن الخطوة الآتية، نتمنى أن يسخر وقته الثمين، وقلمه الرائع، وفصاحة كلماته في توضيح الخلل الموجود في الأشرطة القديمة ونقض كل ما في تلك «الكاسيتات» والمنشورات والمحاضرات من تلبيس على الناس سواء كانت له أو لأقرانه. وهذا أقل ما يمكن تقديمه ككفارة عن الأرواح التي أريقت دماؤها في سبيل مخططات الإخوان السرية سواء أكان ذلك عن قصد أو بدون قصد.
وقبل الختام يجب أن نشيد بجهود الدولة السعودية -حفظها الله- في مكافحة التطرف، وتجربتها الرائدة في الميدان تستحق الدراسة والتأمل لأنها لم تكتفِ بالنجاحات التي تحققت في المجال الأمني والعسكري بل واصلت جهودها في مجال المناصحة، ومجابهة الفكر بالفكر. ولم تكتفِ أيضاً في توعية الناس بمخاطر هذا الفكر بل شملت جهودها رموز الصحوة أنفسهم، وسعيها الحثيث مع هؤلاء كي يبدلوا أفكارهم ويخلعوا مشالحهم القديمة.
ومن أهم النقاط التي يجب التذكير بها، أن السبب في هذه النجاحات بعد توفيق الله تعالى، هو صدق المنهج الذي تسير عليه هذه الدولة المباركة، وهو المنهج المنصور -بإذن الله-. والدليل على ذلك، تلك الانتصارات التاريخية التي تحققت في مجابهة الأفكار الهدامة كافة، حيث سبق أن انتصر هذا المنهج على الأفكار الشيوعية، والقومية، والحداثية، وليس آخرهم منهج الإخوان والحزبية وغيرها من التفريخات.