يوسف المحيميد
أحيانًا أشعر بأن الموهبة والإبداع في مختلف الحقول يظهران أكثر لدى أشخاص يعيشون حراكًا وتنقلاً أكثر ممن يعيشون سكونًا؛ فالمبدعون الذين انتقلوا من ثقافة إلى ثقافة أخرى مختلفة تمامًا كأنما عاشوا حياتين أو أكثر. وربما يظهر ذلك أيضًا لدى مَن هم أبناء زوجين من ثقافتين مختلفتين. وفي النهاية هؤلاء نتاج حراك وبحث، جعل منهم أكثر اطلاعًا من غيرهم؛ فالاطلاع على الجديد والمختلف هو ما يصقل الموهبة ويغذيها، ويجعلها أكثر تفردًا وتميزًا.
كثيرٌ من المواهب عاشت مثل هذا الحراك. تذكرت ذلك مع رحيل المعماري الشهير تشين تشونج يوم الخميس الماضي، وهو الذي قام بترميم وتجديد متحف اللوفر في باريس، وأثار جدلاً كبيرًا آنذاك لكونه ليس فرنسيًّا، مع أنه أمريكي من أصل صيني، بما يكشف أن هذا العالم يجمعه إنسانيته؛ فالإنسان هو محور هذا العالم، بصرف النظر عن وطنه وجنسيته. هذا الرجل الذي هاجر من الصين إلى الولايات المتحدة عام 1935، ودرس الهندسة المعمارية في معهد ماساتشوستش للتكنولوجيا وجامعة هارفارد، صمم هرمًا زجاجيًّا، إطاراته من الصلب، وارتفاعه 21 مترًا؛ ليصبح مدخلاً فخمًا ومهيبًا بجانب ثلاثة أهرامات أصغر منه. ويثير غضب الفرنسيين لأنه يختلف تمامًا عن النمط الفرنسي الكلاسيكي، ومع ذلك أصبح أيقونة ورمزًا معبرًا عن أحد أهم المتاحف في العالم.
وربما يذكِّرنا تشين تشونج بالراحلة زها حديد البريطانية من أصل عراقي، وهي أيضًا مصممة معمارية بارعة، أنجزت تصميمات هندسية عالمية لافتة، منها مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية، ومحطة مترو المركز المالي، وكلاهما في الرياض. وهناك الكثير من المواهب العظيمة التي مزجت حضارتين، أو استطاعت كسر المقولة الشهيرة التي أطلقها الشاعر الإنجليزي «روديارد كبلنغ» في نهاية القرن التاسع عشر، بأن «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا»؛ فهذه المواهب العظيمة أثبتت أن الشرق والغرب يلتقيان، ويمتزجان جيدًا؛ لينتجا لنا هذه النماذج الإنسانية العظيمة، المسكونة بالإبداع والحب والأمل.