د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
حقائق قد تبدو غريبة ولكنها حقائق رجحها التاريخ، وهي أن الحفاظ على السلم أصعب بكثير من إشعال الحرب، وأن إقامة العدل أصعب من إشاعة الظلم. فالسلم والعدل يحتاجان إلى جهود أكبر للحفاظ على توازن دقيق يمنح لكل ذي حق حقه، أما الحرب والظلم فتقتات على الفوضى وغياب التوازن. والحروب ليست إلا نتاج اختلال في التوازنات الإقليمية وغياب القدرة على حفظ التوازن السلمي العادل.
وبالنظر لمنطقتنا، نجد غيابًا نسبيًا لمبادئ التوازن والعدل تُبرّر بأشكال مختلفة من أهمها القضية الفلسطينية التي أُجّلت في وقت ما معظم مهام بناء الدول العربية الحديثة من أجلها. فالنظام العربي القومي ككل نظام قائم على توازنات مرحلية هشة لا تلبث طويلاً لتتحول إلى توازنات جديدة تبدو للوهلة الأولى صلبة لكنها تظهر فيما بعد مظاهر ضعف أقوى من سابقتها.
وإذا أردنا أن نعرف ما يحدث في منطقتنا اليوم يجب أن ننظر في ماضيها القريب نسبيًا الذي يحضر في قضايانا الحالية كافة. مرحلة بدأت وتشكلت بعيد الحرب الأولى وظهور الحركات القومية في أنحاء العالم كافة، ومنها العربية حيث تحررت معظم الدول العربية من الحكم العثماني الذي حفظ رغم طابعه الاستعماري المتخلف بعض التوازنات في العالم العربي. ولم تسمح بريطانيا وفرنسا بظهور عالم متوازن جديد ولو في حده الأدنى بل تركتا عالم متناقض مفكك الأوصال رغم وجود أكبر رابطتين قوميتين بين الدول المختلفة: اللغة والدين.
ساعدت بريطانيا في تأسيس جامعة الدول العربية ومعها حركة الإخوان المسلمين في وقت وصل فيه المد القومي ذروته. وكأنها تهيئ لصراع قومي ديني لا ينتهي. كفّر الإخوان القوميين، وخون القوميون الإخوان. واستمرت بريطانيا والدول الغربية في التلاعب بهذا التوازن الزئقبي بين القوميين والإخوان المسلمين بشكل حجب كلية تطلعات الدول العربية للمستقبل بالشكل المطلوب، فاحتراز كل جانب من الجانب الآخر دفعهما إلى صرف معظم الجهود والموارد للتسلح والنواحي الأمنية بشكل كبل إمكانية أي تطور اقتصادي وإداري مؤثر. بقيت الدول العربية حبيسة توازنات الصراعات والتخلف، ومع الوقت نظرت لهذا الوضع على أنه هو الوضع الطبيعي لها وللمنطقة.
الحركات القومية لم تكن مقصورة على العرب فقط بل ظهرت الحركة القومية اليهودية الصهيونية نتيجة لإرهاصات الحرب العالمية الثانية، وبدأ الاستعمار الاستيطاني لقلب العالم العربي، مع التحفظ على مصطلح عالم عربي لأنه لم يوجد أساسًا في أي يوم من الأيام. فلسطين، إسرائيل حاليًا، تتمتع بأفضل موقع جغرافي ربما عالمي، وهي أرض خصبة وذات أهمية تاريخية كبيرة جدًا، وبها أهم مقدسات الديانات الثلاث باستثناء الحرمين الشريفين. ويمكن اعتبار الاستيطان الإسرائيلي كارثة الكوارث بالنسبة للعرب، مسلمين ومسيحيين وربما يهود أيضاً. وقد لا يعلم البعض أن مبدأ «أرض الميعاد» الذي بنت الحركة القومية اليهودية الاستيطان في فلسطين عليه لم يرد مطلقًا في التوراة أو حتى في التلمود وإنما ورد في الأناجيل التبشيرية، وتبنته حركات «الإخوان المسيحيين» كضرورة لعودة المسيح وهذا يفسر الدعم غير المحدود لإسرائيل في الغرب المسيحي.
ثالوث التوازنات في منطقتنا التي تحولت لمنطقة عربية-يهودية هو الحركات الإسلامية، الحركات القومية، والقومية الصهيونية. هذا التوازن الهش يسهل التدخل الخارجي فيه ويسهل هدمه من أجل بناء توازنات جديدة تحفظ المصالح الخارجية والفقر والتخلف العربي. فإسرائيل أداة تدخل قوية وسانحة عندما تتوافق مصالحها مع المصالح الغربية، وتعتمد على حركة قومية متطرفة لا يعاديها الغرب الديمقراطي بل يدعمها. وهي بحاجة دائمة للحروب لتجديد وهجها وتماسكها وإرهاب أعدائها. أما العرب، خاصة بعض الأنظمة القومية فقد تحول كثير منها إلى أحزاب ديكتاتورية عسكرية جاهلة همها السيطرة على شعوبها، والباقي إلى قوى إسلامية طامحة تتعامل مع الشيطان لإحلال الحلم الإسلامي بالخلافة.
انتصرت إسرائيل في حروبها، وأيقن العرب ألا حل إلا الحل السلمي الذي ترضاه إسرائيل بدعم من الغرب، وبقي الوضع لا سلم ولا حرب. وفي هذا الوقت بالذات كان لا بد من تحريك النزاعات في المنطقة فتم تسليم إيران لقوى إسلامية مذهبية قومية تشبه في تكوينها القوة الاستيطانية الصهيونية لو استبدلنا فقط مفهوم أرض الميعاد بعودة المهدي. دخل العراق الكويت فدُمر العراق، ثم برزت إيران كقوة جامحة في المنطقة واختلت التوازنات مرة أخرى. وفي كل مرة تختل التوازنات تلوح أخطار الحرب لاستبدال التوازنات بتوازنات جديدة، وفي كل توازن جديد يتم خفض الدور العربي من جديد. ربنا في هذا الشهر الفضيل جنب بلادنا شرور وويلات الحروب.