د. محمد عبدالله العوين
ألق النظرة الأخيرة على بعضك، ودع جزءا من ذاتك التي نثرتها هنا بين غرفه الضيقة وممراته الملتوية وفنائه الصغير, ودع عمرك الذي نيف على ستة وثلاثين عاما وهبته هذا الجماد المكون من تراب وحجر وإسمنت حتى تدفق فيه النبض فناجاك وناجيته تحدث لك وتحدثت إليه في ليال طويلة أنيسة فرحة منتعشة مزهوة عبقة بالأحلام والورود والأماني العذاب وموحشة كئيبة كان فيها الأنيس المساهر؛ فبين حيطانه وخلف أبوابه ووراء نوافذه خزنت أسراري وبحت بهواجسي وأغلقت في أحضانه أقفال ذاتي.
ودع أيها الفتى عمرك الذي وهبته هذا الجماد فنطق، ومنحته هذا المكان فحزن كما حزنت لفراقه!
قبل كل زاوية منه، قف على كل باب، الثم بشفتيك كل عمود، تمرغ في ذرة كل تراب، ارو عطش عينيك من كل شبر امتلأ قلبك فيه سعادة وانتشت روحك فيه طمأنينة وابتهجت روحك فيه بإفضاء عذب.
كيف لك أن تفارق بعضك؟! كيف لك أن تغادر ذاتك؟ كيف لك أن تهجر ماضيك أو تنقطع عن تاريخك؟ كيف لك أن تنسى ميلادك الجديد بعد أن شببت عن الطوق وبلغت سني النضج وعنفوان المغامرة وبدء التكوين؟!
تتذكر ذلك اليوم البعيد قبل أربعين عاما حين دفعت كل ما كنزته من عرق جبينك لأحد الإقطاعيين الذي اشتريت منه هذه الأمتار القليلة لتبني عليها حلمك القادم المنتظر، لقد كان المبلغ الكبير الذي طلبه - بمقياس ذلك الزمن - لا تملكه كله؛ فتوسلت إليه أن ينظرك بعض الوقت إلى أن تكمل له ما نقص من ثمن الأرض، كان كريما وطيبا، ولم تكن أكبر همه ولا قاصده الوحيد فنسيك ونسيته إلى أن أكملت بناء الحلم.
لقد كان «قصرا» في نظرك، لم يكن بيتا عاديا، فما خرجت منه في ذلك الحي القديم جدا من أحياء الرياض الذي كان يشاركك فيك ثلاثة من أبناء عمومتك، لكل واحد غرفة منه لا تزيد على ثلاثة في أربعة أمتار؛ يجعل بيتك هذا قصرا منيفا فاخرا تباهي به وتنعم بما اجتهدت فيه من تزيين وزخرفة وطلاء وتجميل.
ولكنك اليوم بين حزن وفرح، حزن على فراقه بعد ستة وثلاثين عاما على صحبته وفرح بمنزل جديد، والحزن العميق المتجذر في القلب لا يمكن أن تمحوه لحظات فرح سريعة عابرة تتلاشى حين تذهب النشوة الأولى.
ودع الآن عمرك الذي دفنته بين ذرات هذا المكان، ودع أجمل وأزهى وأزكى ساعات ذلك العمر، قبل مكانا جلس وأكل فيه والدك من مائدتك واحتسى فيه قهوتك وتدفق فيه قصصا وحكايا، الثم مكانا اتكأت فيه والدتك ومددت يدها إلى يدك لتساعدها على النهوض بعد أن تعانقت روح بروح وقلب بقلب في حديث لا يمل حتى لو تكرر عشرات المرات، هنا جلست، هنا اضطجعت، هنا علقت (راديوها) الصغير المثبت على إذاعة القرآن الكريم... يتبع