د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** بين العلماءِ بمختلف تخصصاتهم من التدابر ما أُفردت له مصنفات، وبينهم من الاختلاف ما تعددت به المذاهب، وبينهم من الجفوات ما أشغل متابعيهم فصاروا فِرقًا، ولا غرابة؛ فدارسو العلوم النظرية غير الخاضعة لقوانين الطبيعة - يجتهدون فيأتلفون ويختلفون، وفي مقابلهم يفرغ مختصو العلوم التطبيقية لمعاملهم ومعادلاتهم ويَسلمون من الخصومات المباشرة إذا استثنينا بعض الأزمنة الانتقالية كما حصل في العصور الوسطى حين كانت الفرضيات تسود ورجلُ الدين يقود، وفي نماذجها ما حدث في حالتي «كوبرنيكوس وغاليليو» - في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين- حول مركز الكون؛ أهي الأرض أم الشمس؟ وناتجُها صدامٌ مع الكنيسة ورجال الدين، وفي ثقافتنا من النماذج ما يعسر على الحصر.
** لم تخلُ الأمم والعصور من نزاعات بين الفلاسفة والمؤرخين والفقهاء والأدباء واللغويين وأمثالهم، ولا تعيب أولاء ولا أولئك جدلياتُهم إلا حين يحِل الشقاق ويتوارى الوفاق ويتخطى المختلفون حدود الموضوعية فتتشخصن القضايا ويسأم الباحثون، وربما سخروا من علمٍ ينتهي بشك، وحوارٍ يصطدم بجُدر، ولكن إلى حين.
** تنتهي المؤثراتُ الآنيةُ بما فيها من تفاعلٍ وانفعال فنعود إلى قراءة الجدل بعد غياب أربابه، ونكتشف أن في بعضِها جَورًا تجاوز حدَّ التحيز، ولعل «طه حسين 1889- 1973م» مثلٌ عن أمثلة حين اتُّهم بالتغريب ومعاداة الدين، ثم قرأناه وسمعناه متحمسًا للفصحى لا يكاد يتحدث بسواها، ومناوِئًا للعامية ناعيًا على كَتبتها ومتحدثيها ورافضًا قراءة مخرجاتها، معتزًا بكتبه الإسلامية أكثر من بقية تآليفه، مركزًا إنصاته على إذاعة القرآن الكريم، ومرددًا كل يوم دعاءً مأثورًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن غير أن نصادر حق الاختلاف معه يجيء السؤال: أيجوزُ إلغاءُ تميزٍ بتحيز؟ أو نسف إنجازٍ بابتساراتٍ شِيئَ منها انتقاءُ الأخطاءِ وتضخيمُها ومزجُها بالدفاعِ عن الموروث والغيرة على القيم؟
** له -كما لسواه- ما يؤخذ منهم ويُردّ عليهم، لكن ثقافة - سادت زمنًا سبق الصحوة وما زال بعدها (كي لا تُتهمَ وسط المزايدات حولها بما يزيدُ جراحها)- استمرأت التصنيف حدًا صادر معه أولو الاتجاهات المتصادمة الوعيَ المنطلق وحشروه في النفق المنغلق تأييدًا لرموزهم ونعيًا على سواهم، وكانت ممارساتهم إقصائية لا فرق فيها بين القوميين والإسلاميين والحداثيين والليبراليين ومن تلاهم من «المابَعديين» دون أن ننفي إضاءات كلِّ فريقٍ وإضافاته؛ فليس في الحياة الثقافية شرٌ مطلق أو خيرٌ مطلق، ولكلٍ عقله القادرُ على المحاكمة والحكم، والمؤدى يقينٌ بمشاركة كل الاتجاهات في تخليق وعيٍ خاصٍ بهم ومحاولة فرضه وفق سلطاتهم.
** ليتنا -بعد تجارب مضنيةٍ مُشتِّتة- نعتني بغرس استقلالية الأذهان الناشئة وتحريرها من وصاية المؤدلجين كي يقرأ الشبابُ ويقرروا بأنفسهم فلا يُحرموا من فكر متميز ولا يتأزموا بتوجيه متحيز، وليت من يتأثرون بالشخوص يركزون على النصوص.
** الانتقائيةُ ظلمٌ وظلمة.