رمضان جريدي العنزي
ما نام ليلة من غير وجع، والأنين آهات متتالية، الوجع يملأ ساقيه النحيلتين، ظهره بطنه وركبتيه، موجع هو الوجع، ومؤلم هو الألم، مرغم يئن بشدة، ما تعود ذلك البتة، وهو الذي ما اتكأ يومًا على عصا أو جدار، أو استجدى أحدًا، صار مثل أم ثكلى فقدت وحيدها في معركة، حتى أتلف عينيها الحزن والبكاء، قسى عليه الألم حتى نال من روحه وجسده، وهو الذي كان صافياً كنبع، ولطيفًا كنسمة، وعطرًا كشذى وردة، وساقية كانت تسابق الريح، أصبح يسرح كثيرًا يتذكر صباه ومراهقته وجنونه في ربيع عمره ورجولته وحين كانت عافيته، يحدق في وجهه بالمرآة الذي أصبح شيخوخة موجعة، يصبح مذهولاً ومصدومًا وهو الذي كان وسيمًا وطلته بهية، هو المرض يقلق العقل، ويرمي هدوء الروح، ويرمي ألف حصاة وحصاة خلف الفرح، يحيل الوجه الجميل الأنيس لمغارات داكنة، ويجعل الروح مرة، والأيام علقمًا، كان يركض في الحياة طويلا، يعرف زواياها، ممراتها والفجوج، ما استكان يومًا وما استراح، وما صابه الخدر، حتى انحدر ولم يبقه له غير نثار من حنين ماض، صار متعبًا ومكدودًا وقواه منهكة، كان مترعًا بالقوة والصرامة والحياة، حتى تآكلت قواه، وخارت بفعل المرض، كل شيء عنده يبس، مثل صحراء جافة، لا يشتم منها غير رمل حارق وهجير وشوك، اضطرب به المرض وعصف حتى صيره مثل أرض قاحلة جدباء لا فسحة فيها لرواء، لم يبق في ذاكرته المتعبة غير خيوط لامعة صغيرة، يعيش معها وبها، يصحو على وجع، وينام على وجع، ومع كل مرعبات المرض، لم تعد بسمته ثابتة، وعزيمته انهزمت من جور ومكائد وهزائم المرض، حزنه صار في عمق ذاكرته متخللاً ومنخولاً، وهو الذي كان يزيح الواقع لتجريدات وتهويمات وأخيلة فاقت سطوة الأساطير حتى بات واقعه ممجوجًا ومحتشدًا بالأنين، كانت فانتازيات الماضي، وأبجديات الرحيل، حكايات توقظه لبرهة، تلعب بعقله وعواطفه بكل طقوس الحكايات، تظل معلقة معه حتى آخر الشريط، قبل أن يفيق على واقع مر، وبه خذلان وجحود، يغلفه المرض، ويدثره عن العافية، يعصف به، ويبعد عن عيونه الوسن، قال لي: كنت أشد الرحال، أبحث عن وجهتي في مرايا الرمل، وإذا ما غربت الشمس أنخت راحلتي، واسترحت وراء التلال، أسمع كائنات البراري، عواء، وصوت ريح، وبعض توجس، وثلة من نجوم، وسرب من الطيور تهاجر في الليل نحو أوطانها، وعندما يسفح النور، أطوي الأرض طيًّا، وأحدو بعض الحداء، وعندما تجيء الظهيرة أفرش عباءتي تحت ظل شجرة، وأحكي لرالتي عن الماء والرمل وبلاد العيون التي أريد، قال لي بتنهد: لقد فض الزمان جدائلي، واستباح صحتي، وداهمني بسيله العارم، حتى أصبحت الآن مثل رواية سقطت من مخيلة الرواة، أو مثل ورقة توت، أعلل نفسي، وأغمس قدمي في رمال الزمان، وأسترجع المفرحات المبكيات، العاصرات المضيقات الخانقات، أترى حين تنزل الشمس من قبة الصحراء على مهل نحو أفق الغروب، ويعود الراعي إلى مهجعه، بعينين جاحظتين، وصوت محتبس كأنما التف عربيط حول رقبته، من أثر التعب، هو أنا صرت بعينين نصف مغمضتين تراقب نزول الشمس، وقبل أن يداهمني الوسن، أراني أترجل عن تعبي، أشرب حفنة من ماء تعيد لي بعض العافية، آآآه كم يعذبني المرض والوحدة، وكم يعذبني قساوة الذين كنت أحتضنهم وأشمهم، وأمسح على رؤوسهم، ويأكلون وأنا أجوع، أنا في السفح لأضعهم في القمة، تضربني سياط الشمس، وتدبغ جلدي، لأصنع لهم الحلم، وأهيء لهم ممرات الرخام، وها أنذا صرت وحيدًا، الباب موصد، ونوافذ غرفتي مغلقة، وما عندي غير الأنين، وصحبتك الفاخرة.