د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
عالمنا الذي نعيش فيه ليس وليد اليوم، بل وليد تطور تاريخي وسياسي واقتصادي مستمر. فجذور الماضي بعضها عميق جدًا تصعب ملاحظته إلا على الباحث المهني المدقق.
عالم اليوم لم يتحول الى قرية واحدة بين عشية وضحاها كما صور ذلك مارشال ماكلوهان، بل تدرج في التقارب حتى أصبح يضيق بشراسة التصارع والتنافس بين القوى الرأسمالية المتحكمة فيه. وكلما ازدادت شراسة التنافس تراجعت الأسس الأخلاقية لهذا التنافس.
تصارعت الإمبراطوريات على الأراضي والثروات، وكان المنتصر يستعبد المنكسر باعتباره جنساً أقل، بربرياً أو همجياً. وأرسلت الثروات للمراكز الإمبراطورية فجعلتها أكثر إبهارًا ودفعتها لاحتقار أكبر لهوامشها التي هي مصدر ثرواتها.
أثينا، بغداد، الاستانة، روما، شانغهاي حواضر لا زالت تنطق بعظمة إمبراطوريات أفلت تملأ شواهد عظمتها متاحف العالم. بُرّرت الحروب عرقيًا ثم دينيًا، والأهداف الكامنة واحدة. واستهدفت الجيوش الإمبراطورية كل من يسهل استهدافه ووصم بالوثنية، أو البربرية من قبيل التبرير. وكانت الحروب الدينية بلا منازع أشرس الحروب وهدفت ببساطة للقضاء المبرم على الآخر إذا لم تكن حاجة له لخدمة الغازي.
سقطت روما وتغير العالم جذريًا، وبرزت بوادر الثورة الصناعية، وتحول الاستحواذ على الأرض من أجل الزراعة، إلى الاستحواذ عليها من أجل المواد الأولية التي تغذي الصناعات الناشئة، وسهّل تطور بناء السفن إلى ظهور التجارة المريكانتيلية، وبيع المواد والمنتجات لمن يحتاجها، فظهرت أهمية فائض القيمة الاقتصادية والحاجة لإعادة استثماره.
بدأ مع ذلك عصر ما سمي الحداثة، وانقسم العالم إلى فسطاطين : أوروبي غني، وبقية العالم فقير. وبدأت حركة الاستعمار الاستيطاني في الأمريكيتين، واستراليا، وأفريقيا، وأجزاء من آسيا من قبل شعوب تجمعها سمات فسيولوجية متشابهة في كونها بيضاء البشرة، ومن هنا تحول مفهوم جنود الرب في إمبراطورية روما المسيحية إلى مفهوم الرجل الأبيض.
تطلبت الأراضي الشاسعة الجديدة التي استحوذ عليها الأوربيون في قارات العالم كافة قوى عاملة لزراعتها، أو استغلال مناجمها بثمن بخس، فرحلت أعداد كبيرة من الشعوب الملونة لأداء هذه المهمة على شكل عبيد غالبيتهم من أفريقيا. وتقسمت المستعمرات الجديدة إلى أسياد بيض، وعمال سود، وسكان محليين إما يعملون لصالح المستعمر أو نظر لهم كفائض عن الحاجة وتمت إبادتهم مثل سكان الأمريكيتين الأصليين، والاستراليين الأصليين، وبعض قبائل أفريقيا التي جرأت على الاقتراب من المصالح الحيوية للمستوطنين الجدد. تم القضاء عليهم كما يقضى على الحيوانات المضرة في البرية.
ورغم تراجع العنصرية الدينية، وظهور فكر وفلسفة إنسانية جديدة ومبشرة في ذلك الوقت، وبروز ما سمى «القانون الطبيعي»، وحقوق الإنسان الطبيعية، وميثاق حقوق الإنسان في فرنسا، وتعديلات الدستور الأمريكي إلا أن الرأسمالية الجديدة بررت ممارساتها بأن هذه الشعوب ذات طبيعة إنسانية أقل ولذا لهم حقوق إنسان أقل.
السيطرة على الثروات وعلى الشعوب الأخرى لم تتطلب استعمار الأرض فقط، بل الأهم من ذلك استعمار عقول الشعوب المسيطر عليها. فاستدامة سيطرة الرجل الأبيض ضرب من المستحيل بدون الاكتساح الفكري والإيديولوجي للشعوب المغلوبة، وترسيخ قناعات متوارثة لديها أن هذا جزء من الطبيعة البشرية، وهنا تكمن السيطرة الحقيقية. استقلت كثير من الدول ماديًا ولكنها لم تستطع الاستقلال فكريًا وثقافيًا فما زال الغرب يرسخ أن قيم الغرب، وحداثة الغرب، وثقافة الغرب، وفن الغرب هي الطرق الوحيدة للتقدم. فلا يمكن الوصول للحداثة بدون الإنسان الغربي أو المؤسسات الغربية. الغرب هو المدمر والغرب هو المنقذ. ولا زال الغرب ينظر لشعوب العالم أنهم واحد من ثلاثة : الغربي المتمدن الحديث، من يخدم الغربي ويتوافق مع مصالحة سعيًا للحداثة، وشعوب ينظر لها كفائض عن حاجة العالم الرأسمالي الحديث. الشعوب التي ليست متحكمة، ولا عاملة، ولا مستهلكة، لا مشاحة أن تموت في الحروب بأعداد كبيرة كأضرار جانبية، لا مانع أن يقتلها المرض أو تفتك بها الأوبئة، فهم فائض عن الحاجة.
الغرب يلقي بفائض الأطعمة في البحر حفاظًا على الأسعار، أو في براميل النفايات دونما اكتراث بمن يموت من البشر من الجوع في أفريقيا، وغيرها، يفعل ذلك وهو يتسنم منصات الدفاع عن الإنسانية وحقوق الإنسان، فهذا البشر الفائض عن الحاجة لا ينتج ولا يستهلك ولا يملك موارد طبيعية.
روسيا وربيبها الأسد قتلت وهجرت ملايين السوريين السُّنَّة لأنهم في نظرهم فيض عن الحاجة. الفلسطينيون في فلسطين، شعب يصوَّر في الغرب، رغم سهولة الوصول إلى الحقيقة، على أنهم إرهابيون، نساؤهم أمهات إرهابيين، أطفالهم إرهابيون محتملون ولذا فهم فائض عن الحاجة ويزاحمون الإسرائيليين الذين ينظر لهم كشعب ديمقراطي وجزء من العالم الحديث المتطور.