محمد آل الشيخ
أصدر البرلمان الفرنسي مؤخرًا قرارًا برلمانيًا يمنع الأمهات المسلمات من ارتداء الحجاب عند مرافقتهن لأبنائهن في الرحلات المدرسية. في تقديري أن هذا قرار تعسفي وعنصري، ينسف أول ما ينسف القيم الليبرالية، والحقوق الشخصية للفرد، التي تنص عليها جميع الدساتير الأوربية بلا استثناء بما فيها الدستور الفرنسي؛ وللأمانة أقول: إن هذا القرار اعترض عليه كثيرون من أعضاء البرلمان، وامتنع عن التصويت عليه آخرون، ما جعل إقراره تم بالأغلبية النسبية.
في تقديري أن القرار كانت دوافعه عنصرية، تتناقض مع مبادئ وقيم الحرية الشخصية، التي يعتبرها العلمانيون الفرنسيون مبادئ لا تمس. فهم يقولون: إن للفرد كامل الحرية لأن يقول ما يشاء، وأن يعتقد ما يشاء، وأن يتصرف كما يشاء، شريطة أن لا تمس حرية الفرد الآخر. وهذه -كما قرأنا في أدبياتهم- مبادئ لا يمكن المساس بها أو انتهاكها ويرفضون المساومة عليها تحت أي ظرف من الظروف. وفعلا استمر تطبيق هذه المبادئ الإنسانية الراقية منذ فولتير بشكل أثار إعجاب الآخرين، وأنا واحد منهم.
غير أن هذه التي كانوا يسمونها (قيمًا مبدئية) عادوا وتخلوا عنها، وتلمسوا لتخليهم عنها أسبابًا ليضربوا بها عرض الحائط بموقفهم من هذه القوانين العنصرية، ومن نافلة القول إن مثل هذه القوانين الجديدة تزرع (بذرة) الكراهية بين مكونات المجتمع الفرنسي، الذي يمثل المكون المسلم منه ما يزيد عن خمسة ملايين نسمة؛ والكراهية هي في نهاية المطاف التي أفرزت الإرهاب كما تقولون وكما نقول نحن أيضاً، فإذا كان الغربيون عموما يُطالبوننا في كل شاردة وواردة بنبذ كل ما يدعو للكراهية من ثقافتنا، فإن من العيب أن تمارسوا ما تدعون الآخرين إلى نبذه وتنقية ثقافة الآخر من كل ما من شأنه أن يكرس هذه الثقافة التي تؤسس في نهاية المطاف للإرهاب.
قد أتفهم منع فرنسا وكثير من الدول الغربية للنقاب وليس للحجاب، لأن ذلك يلغي قدرة الآخر على التعرف على هوية المرأة، الأمر الذي ربما يُسوغ التخفي ويعيق الأجهزة الأمنية من تتبع ورصد ومعرفة المطلوبين أمنيًّا, إلا أن الحجاب، أو كما يُسمى في المصطلح الفقهي لدينا (التحنك) وإخفاء الشعر فقط، وإبقاء الوجه مكشوفًا، لا يُلغي هوية المرأة، وليس له علاقة البتة بالمحاذير الأمنية.
كثيرون من المحللين يعيدون تلك القوانين الجديدة، التي جعلت الفرنسيين يتخلون عن (هذا المبدأ الجوهري من مبادئهم، إلى ظاهرة (الإسلامو فوبيا) التي لم تكن موجودة في السابق في هذه المجتمعات، إلا أن ازدياد أعداد المنتمين للمد اليميني العنصري المتطرف في الغرب عمومًا، أدى إلى وجود مثل هذه الإرهاصات العنصرية الخطيرة، ليس على لحمة مكونات هذه المجتمعات فحسب، وإنما على لحمة وتعايش مكونات العالم أجمع. لا سيما وأن خطاب الإرهاب الأيديولوجي يتكئ على القول إن المجتمعات الغربية تكرهنا، وتريد أن تلغي حريتنا الفردية، في حين أنها توفرها كاملة لغير المسلمين، والفرنسيون بهذه القوانين المتعسفة يعطون الدليل والحجة لصحة ما يدعو إليه المتأسلمون من دعاة الكراهية.
ولأن المجتمعات الأنجلوسكسونية، مثل بريطانيا وأمريكا، هي أكثر عقلانية وتماهيًا مع حقوق الإنسان من المجتمعات الفرانكفونية، فإن تلك المجتمعات (يستحيل) أن تجد فيها قوانين عنصرية مجحفة مثل هذه القوانين العنصرية المتخلفة بكل ما تحمله كلمة (تخلف) من معنى؛ وربما تكون السبب الأول الذي جعل الثقافة الأنجلو سكسونية، وفي كثير من المجالات الإنسانية، هي الأرقى والأكثر تحضرًا إذا قارناها بالثقافة الفرانكفونية المعاصرة، التي هي اليوم تعاني من الانحسار في أكثر من مضمار إنساني، مع أنها كانت في الماضي هي التي توصف بحضارة التنوير.
إلى اللقاء