د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
تنطلق السياسة الخارجية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، من عدة أهداف «استراتيجية» كبرى، يأتي على رأسها، تعزيز موقع المملكة خليجيا وعربيا وإقليميا وإسلاميا ودوليا، وتأكيد مكانتها «الروحيّة» ورسالتها التاريخية، ومواكبة التساؤلات التي تطرحها «الحتميّة» الجغرافية والضرورات «الجيوسياسية»، بما تنطوي عليه من تحدّيات للأمن الوطني، وبما تُمليه عليها من «ضرورة» تفعيل دور المملكة على المسرح الإقليمي والدولي، تحقيقا لمصالحها الاستراتيجية.
وتعتبر إعادة «هندسة» محاور السياسة الخارجية السعودية، وأهدافها وأدواتها الاستراتيجية أهم «عناوين» الفترة المنصرمة من عهد الملك سلمان، استجابة للتغيرات الخليجية والإقليمية والدولية، وردا على الاضطرابات والتحولات العميقة في الخريطة العربية، وما يحيط بها من تقلّبات سريعة ومتلاحقة، في ظل متغيّرات أوسع، وصراعات قوى دولية على المنطقة.
وتتمثل أهم «محاور» السياسة الخارجية السعودية في عهد الملك سلمان في تطوير علاقات المملكة «الخارجية» بجميع أطراف المجتمع الدولي ومكوّناته، خاصة القوى الفاعلة فيه، والأكثر تأثيرا في حركته. ومن هنا جاءت حركة الدبلوماسية السعودية لتشملَ معظم دول العالم، خصوصا الدول التي تقع في موقع مهم من المجالات الحيوية للمملكة.
وعلى الرغم من اختلاف «اللحظة» التاريخية الحالية، وطبيعتها، وظروفها ومتغيراتها المتلاحقة، لا نستطيعُ أن نعزلَ عملية «إعادة هندسة» السياسة الخارجية السعودية، عن «الثوابت» التي قامت عليها السياسة الخارجية للمملكة، منذ عهد الملك المؤسس، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيّبَ الله ثراه - لكننا نرى أن السياسة الخارجية الحالية تتم في إطار تلك الثوابت، مع تقدير طبيعة اللحظة ومتغيراتها، وخصوصيتها، وما تقتضيه من أدوات وآليات متمايزة، وقد تكون مختلفة.
ويمكن القولُ، إن العديد من المراقبين والمتابعين للشأن السعودي، يلاحظون تغيّرا رئيسيا مهما في التوجهات الخارجية السعودية، منذ صعود الملك سلمان إلى سدّة الحكم وتولّيه مقاليد القيادة، حيث يرصدُ المعنيون بالتغيرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط عامة، والمنطقة العربية على نحو خاص «حضورا» قويا للسياسة الخارجية السعودية، في مجالاتها الحيوية، خليجيا، وعربيا، وإقليميا، وإسلاميا، ودوليا.
كما يلاحظون أن القوة السعودية لم تعد تقتصر على الثروة المالية، التي دأبَت المملكة على أن تقدمها للعديد من دول العالم، وأن تُوَظّفَها في خدمة الكثير من شعوبه، ومساعدتها في مواجهة وتمويل أزمات العالم ومشكلاته الاقتصادية، في صورة معونات، أو تمويل لبعض أدوات القوة الناعمة ذات التأثير الثقافي الإيجابي الذي يخاطبُ العقل العربي والمسلم، إلا أن ما يجري على الساحتين الإقليمية والدولية، جعل هذه القوة تتجاوز تلك الحدود، لتمتد إلى توظيف القوة العسكرية والدبلوماسية.
ولا شك أن القوة الصلبة في تحديات عالمنا المعاصر، مطلب مهم ورئيسي، وأولوية أحيانا على ما عداها من متطلبات، ومن هنا، كانت الحاجة إلى بناء ترسانة عسكرية وطنية قوية ومتقدمة. فالمملكة، باعتراف الدوائر المعنية بدراسات الاستراتيجية والعلوم العسكرية، تمتلكُ اليوم واحدا من أقوى جيوش المنطقة، عددا وعتادا. ولا يتوقّفُ الأمر عند امتلاك القوة وحسب، فالمملكة لديها الثقة في قدراتها العسكرية، والإرادة المستقلة في استخدامها. وقد تجلّت هذه الحقيقة أمام العالم، وبوضوح، في دخول قوات درع الجزيرة إلى مملكة البحرين عام 2011، لتشارك في حماية المملكة الشقيقة من المؤامرات الخارجية، التي كانت تستهدف أمنَها وسيادَتَها، واستقلالها، ووحدة ترابها الوطني.
فلقد فرضت طبيعة وتحديات اللحظة التاريخية الراهنة على المنطقة والإقليم - وبما تعنيه من محاولات تغيير وتبديل «الخرائط» الجيوسياسة للمنطقة، ومحاولات إعادة رسم الحدود بين دولها - تهديدا مباشرا للأمن القومي العربي، وتهديدا للوجود العربي ذاته.
من هنا، تخلّت المملكة العربية السعودية عن هدوئها الدبلوماسي المعهود، وأصبحت تتبنى سياسة خارجية نشطة، حيث باتت تقترح المبادرات، وتشكل التحالفات، في إطار رؤية واضحة لأمنها الوطني. ومن مظاهر هذا التحول «الواضح» والملموس في السياسة السعودية، ما نشهده اليوم من ملامح الدور القيادي البارز الذي صارت تلعبه المملكة في الساحة الإقليمية، حتى صار البعضُ يشير إلى «اللحظة السعودية» في المنطقة العربية، كما أصبح البعض يتحدث، صراحة، عن «الحقبة السعودية» الخاصة في الشرق الأوسط.
ولا يتم هذا الأداء السعودي الفريد والمتميز، الذي يجيء في لحظة تاريخية إقليمية ودولية «استثنائية» بمعزل عن ذلك التوجّه الجديد الذي يمكنُ لنا أن نُسَمّيه «إعادة هندسة» السياسة الخارجية السعودية، وهي إعادة هندسة للأدوات والآليات، لكي تواكبَ المتغيّرات الدولية والإقليمية السريعة والمتلاحقة، وفي مواجهة سياسات تفكيك الدول العربية، وتقسيمها إلى دويلات وكانتونات طائفية ومذهبية، حيث شهدنا في هذا الإطار، أداء جديدا في مجال العلاقات السعودية الدولية.
والملاحَظُ أنّ السياسة الخارجية السعودية، وخلال فترة قصيرة من حكم الملك سلمان، تحرّكت حركة نشيطة إيجابية ومثمرة، مستخدمة أدواتها الدبلوماسية على نحو واسع، شملَ دولا مهمة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.
وقد يكون من المهم، الإشارة هنا إلى بعض نتائج الأداء السياسي والدبلوماسي الجديد للسياسة الخارجية السعودية، وفي مقدمتها توسيع نطاق العلاقات الدولية للمملكة، وتنويع علاقاتها الاقتصادية، إضافة إلى تنويع مصادر السلاح، وتنويع مصادر القوة العسكرية السعودية، بحيث لا تقتصر على مصدر واحد، مما يكون له أكبر الأثر في تأكيد حرية المملكة في حركتها الدولية، وتأكيد استقلالية قرارها السياسي، وتوسيع قاعدة خبراتها التكنولوجية والعلمية.
إن «إعادة هندسة» ركائز السياسة الخارجية السعودية ومنطلقاتها، لم يتم بمعزل عن رؤية استراتيجية واسعة تهدف إلى تقوية المجال العام للعلاقات السعودية الدولية، بحيث يشمل كافة القوى الكبرى، ويتضمن ذلك إقامة علاقات متوازنة بين هذه القوى، وتعزيز تعاونها معه في كافة المجالات، إضافة إلى ترسيخ شراكات المملكة الاستراتيجية، وتوطيد علاقاتها بالقوى العملاقة اقتصاديا، وترسيخ علاقاتها الاستراتيجية بالقوى الصاعدة والناشئة في العالم، إضافة إلى تعزيز علاقات المملكة بحلفائها في المعسكر الإسلامي، وفي المعسكر العربي، مع تعزيز قوة منظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الأمر الذي يعكسُ قدرة أكبر للمملكة على الحركة السياسية والدبلوماسية في كافة الاتجاهات، وعلى كافة المحاور، تأكيداً لموقعها، وحفاظا على مصالحها، وحماية لأمنها الوطني.