د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لم يبق من هذا الشهر الكريم سوى أيام معدودات، نرجو من الله أن يعيننا على قضائها في الطاعات، فالأعمار محدودة، والمغانم معدودة، وفضل الله ورحمته ممدودة، ليس لها حدود، فما خاب من تعلق بالرب المعبود.
ليس في العيش مستمتع، إذا لم يكن القلب للإيمان في القلب مستودع، فتصبح الجوارح للعبادة أطوع، فتزداد الهمم بالتقوى، والبعد عن التعلق بالدنيا التي تفنى، فيارب طهر قلوبنا، وتقبل منها إنك على كل شيء قدير.
لنَا، في سوانَا، عبرةٌ غيرَ أنّنَا
نُغَرّ بِأطْماعِ الأماني، فَنغْتَرّ
سراب هي الدنيا فمالنا والسراب نطارده، فلا هو يروي من ظمأ، ولا يشبع من مخمصة، ولا يغني عن نصب. لكنها طبائع جلينا عليها ومشينا، وهوى إن اتبعنا غوينا، وما يصرفها عن ذلك سوى صدق الإيمان، والاعتماد على الديان، والمثول أمام الرحمن في خشوع ورضا بما قدر وقسم.
بقي من الشهر أيام فيرحل فلعلنا نغتنم فرصة ما بقي ونجتهد في موسم خير قل نظيره، وندرك ما فات من تقصير، ونطلب من الله العلي القدير، الرحمة والمغفرة والثواب والتوفيق في الدنيا والآخرة، وحسن المصير، فرفع الأيدي إلى السماء في جوف الليل سهم من السهام، فترزق المحروم، وتصيب الظالم، وتنصف المظلوم، وتزيل هم المكلوم.
نودع الشهر، وبودنا ألا نودعه، فوداع من تأنس به، وتستمتع بأيامه ولياليه ليس بالأمر الهين على النفس، لكنها سنة الحياة، أيام تمضي وشهور ودهور، ويذهب جيل ويحل محله جيل آخر.
تتابع عجيب في دورة الشمس والأرض والقمر، وجميع الكواكب، والمجرات، والأكوان وما الأرض إلاّ جزء يسير من هذا الخلق العظيم، وما الإنسان إلاّ نقطة في بحر من ذلك كله، سيمضي، ويتبعه غيره من بني جنسه، ومن المخلوقات الأخرى على وجه هذه البسيطة، أو غيرها، والرابح من اغتنم دهره، لا سيما مواسم الخير فأجتهد ليعيش هنيئاً مريئاً في مقام دائم، لا تحل به النوائب، ولا تعلق به الشوائب، نعيم دائم، وظل ظليل، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، والسبيل إليها ممهد بالعمل الصالح والصدق في القول والعمل، وفعل الخير، وتجنب الشر.
عندما يمنح الله المرء الصحة ليعيش هذا الشهر ويجتهد فيه فهذه نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر دائم، وتذكر لنعم الله الظاهرة والباطنة، فغيرنا تحت الثرى يتمنى أن يقول كلمة واحدة ليرتفع بها درجة، ويعتلي بها إلى مرتبة أعلى في جنة المأوى.
الدنيا دار ممر، ليست دار مقر، فما بالنا لا نغتنمها لنبني مقاماً جليلاً بعد الممات، فربما لا ندرك الشهر المقبل نعلم الغيب بيد الله، فلنعمل لدنيانا كأننا نعيش أبداً، ولأخرانا كأننا تموت غداً، فالموت حق لا مفر منه، وها هو نبي الله نوح أعطاه الله ألف عام إلاَّ خمسين عاماً، وبعد ذلك أخذه الله إلى الفردوس الأعلى.
في صباح كل يوم تشرق شمس، وتغيب لتخرج مرة أخرى، وهي نذير لبني البشر أن الزمن له دورته، وأن ذلك التقلب في الطقس، والتناوب بين الشروق والغروب، وغير ذلك من مظاهر الطبيعية إنما هي شواهد على أن هناك خالقاً يدبر هذا الكون، بصنع لا يمكن لبشر أن يلم بدقائقه، وإنما علم القليل عنه ليكون عبرة له، والتدبر في هذا الكون في هذا الموسم العظيم عبادة ولا شك، فما بالك بتدبر آيات القرآن، والتعمق في مدلولاتها سواء العلمية أو التشريعية، وكذلك تدبر قصص من قبلنا من الرسل والأنبياء والأقوام، والمجموعات، وما فتح الله على الخيرين، وما حل بالظالمين من آلام وأحزان، وما أصاب البعض الذين أنكروا نعم الله، وعصوا رسله وآثروا الشهوات على سلوك الطريق السوي.
أيام بقيت في هذا الشهر الكريم وأيام مضت، وهي أيام نرجو أننا أحيينا فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تلك الليلة العظيمة التي لا يرد فيها دعاء صادق بإذن الله، ليلة يتوخى فيها قبول الدعاء، ونحن أحوج ما تكون إلى لطف الله ومنه وكرمه، جعلنا الله وإياكم من المقبولين.