أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لست أحبّ المكابرة لا عابثًا ولا جادًّا؛ ولكنّني أشهد مخلصًا أنّ طغيان الذكاء في هذا العصر الحديث لعثم السجية العربية, وأوبأ رياض القلوب, وأفسد إحماض المجالس؛ ولقد مرّ بي حين من الدهر كنت فيه أتدروش، وأتساذج وأتغابى من أجل أن أروّض قلوب الأحبة بخصلة عربية شهمة كريمة تمجّد الغرّ الكريم, ولا تستحمد الذكيّ الثّعلبيّ في كل المواقف؛ فإن وجدت متغابيًا فرشت له خريطة العقل بيضاء نقية كما عهدها الفيلسوف (جون لوك)!!.. وظننت أنّني لو رضت عقولاً لا يستهان بها؛ ولكم تحرّجت في نفسي، وتمتمت بعبارة: اللهم أحسن طويّتي, اللهم لا تجعلني من الماكرين, اللهم لا تفضح دروشتي الظاهرية بثعلبية خبيئة (بالهمزة)!!.
قال أبو عبدالرحمن: فلما جهرتني أنوار الذكاء البشري الصارخة: أيقنت بأنني درويش على حقيقتي، وعلمت أنّ (العاقل) الذي يحكم في شؤون القرية يقتاد (بالبناء للمجهول) مع اللّجان الخيّرة: ليس هو الذكي.. وعلمت أنّ الأصلع، مفطوح الجمجمة، القابع بين الطروس: ليس هو الذكي.. وعلمت أنّ الآمر الناهي على كراسي الإدارة: ليس هو الذكي.. وعلمت أنّ من يأتيه رزقه رغداً، ويحفّ به رجال السّماط: ليس هو الذكي؛ وإنما وجدت الذكاء الجهنّمي المتوقّد عند ذوي عيون شهب، وسواعد عارية من صعلوك وسوقيّ فدم، وشرطيّ، وزبال: لديهم ذكاء ليس عند جهابذة النظر، وعباقرة العلم، ومحنّكي الإدارة؛ ولقد عوّضهم الله بالذكاء عما هم فيه من كدّ العيش، وشحّ القوت، وعثور الحظّ.. أليس الذكاء ها هنا نقمةً لا نعمة؟!.. هذه واحدة فاحفظوها، وقد كانت مجالس القوم قبل طغيان الذكاء: تحفل بالمتعة البريئة المريحة للأعصاب بكل نادرة سطحية نحسبها من أعماق النكتة والفكاهة؛ فلما تسلّط الذكاء على حياتنا الاجتماعية: أصبح كل شيء سطحيًا، وعزّ على النديم أن يشبع ذلك الذكاء بفكاهة ترضيه؛ لأنّ السر المثير في الطّرفة والنادرة والتعمية: أصبح مفضوحاً بمجاهر الذكاء التي أحرقت كل بواعث المتعة؛ فهذه ثانية!!.. وكان الأديب والنديم يتخيّل نماذج تقريبية للواقع المحسوس؛ ليغذّيها بعناصر خيالية مثيرة مطربة، وكان من يدلّ بهذه الملكة يدلّ بالإعجاز؛ ولكنّ ذكاء الممثّل والقاصّ والروائيّ والمخرج والمشاهد في هذا العصر (عصر طغيان الذكاء): قد قتل ذلك الإدلال كلّه, واستهلك كلّ عنصر أنموذجيّ متخيّل, وأصبح كلّ أنموذج إيجابيّ نادر من حياتنا العادية: فاقداً كلّ عناصر الإثارة وإن كان في السابق مما لا يحلم به، ولقد دلل عبقريّ الدنيا الإمام (أبو محمد ابن حزم) رحمه الله تعالى على أنّ: (الشيىء إذا تجاوز حدّه انقلب إلى ضده) بظاهرة الثّلج والجليد إذا لبث في كفّ القابض: عمل عمل الجمر.
قال أبو عبدالرحمن: أتوقّع يومًا يطلب فيه المشاهد من القاصّ والروائي والممثل والمسرحيّ: أن يريه الواقع كما هو دون أيّ عنصر خيالي، أو أنموذج حالم.. فهذه ثالثة.. ورأيت عقرب السجية العربية يدور على معان ضمنتها معاجم (وأمّا معجمات: فهي تنطّع) اللغة لمادة غرير والأغرّ بالغين المنقوطة والراء المهملة المضعفة؛ فكنوا بـ(أبو الأغرّ)؛ ومدحوا المؤمن بأنّه غر كريم؛ قال الله سبحانه وتعالى عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} [سورة التحريم/ 3]؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتقصّ عتابه لزوجته أم المؤمنين (حفصة) رضي الله عنها؛ بل عاتبها في بعض ما أذاعته من سره, وأغضى إعضاءة العارف عن بقية الذنب؛ والذي نفس أبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري بيده إنّ هذه لصفة ظاهرة (الغرّ الكريم): هي صفة تسامحه عليه صلاة الله وسلامه وبركاته؛ ولهذا قال بعض العارفين: (ما تقصّى [بتشديد الصاد] كريم قط).. ثم استدل بقوله سبحانه وتعالى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ}.. بيد أنّ سماجة الذكاء المعاصر: قطعت هذا الجانب من كرم النفس، وأريحيّة العرب؛ فصارت شيمة المعاصر: أن يتقصّى التوافه؛ ليدّل بذكائه؛ وما فعلوه (ذكاء) وحسب، وليس هو زكاءً (بالزاي)؛ بل هو من أخلاق السفلة، وما فعله الأسلاف ذكاء وزكاءً معاً بالذال المنقوطة في الأولى, والزاء المنقوطة في الثانية.. وهذه رابعة وهي القاصمة.. فإن كان المعاصر منح ذكاءً لا يستطيع التخلص من حدّته؛ وذلك ظاهرة مشهودة في أطفال اليوم: فلا بدّ من حرية إرادية في التغابي والتغافل لا عن ثعلبية ومخاتلة؛ ولكن بالتطبع بسجية الغر الكريم، ثمّ إنّ الإصرار على الإدلال بالذكاء: يولّد العناد والشّحّ، وإنّ القلوب لا تستلان، وإنّ الأريحية لا تستدرّ إلا بذكاء متغاب، وتزكية للذكي المتغابي!؛ وما ينبّؤكم مثل خبير, وإلى لقاء قريب قريب إن شاء الله، والله المستعان.