د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الحيرة في منطقتنا ليست وليدة اليوم بل هي طابع تاريخها الحديث، فمن فترة السبعينيات وأمريكا تتبنى سياسة ما يسمى «بالغموض البناء» في منطقة الشرق الأوسط عموما ومنطقة الخليج كجزء منها حسب الرؤية الأمريكية. و«الغموض» في بعض المواقف ربما كان بناءً بالنسبة للإدارات الأمريكية المتعاقبة ولكن لم يكن بناءً بالنسبة لدول المنطقة. وقد فطن المغفور له الأمير سعود الفيصل، لخطر هذه السياسة وطالب أمريكا أكثر من مرة وصراحة بالوضوح في نواياها. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فهذه ليست المرة الأولى التي طرحت فيها أمريكا فكرة ضرب إيران على الطاولة، بل طرحتها من قبل في عام 2004م بُعيد تفجيرات الخبر، ولكنها تراجعت.
ويمكن التذكير بأنه ما إن استلمت حكومة الملالي إيران مارست أمريكا سياسة تجاهها تأرجحت بين الشد والجذب، مرة تصرح باعتبارها قوة اعتداء وشر، وأخرى تمد يد التقارب معها. فرغم اقتحام سفارتها بعيد عودة الخميني في أواخر عهد الرئيس كارتر عام 1979م باعت أمريكا أسلحة لإيران في عهد إدارة ريجان فيما عرف بفضيحة «إيران كونترا». وأفرجت إدارة كلينتون عن أموال لإيران كتعبير عن حسن النوايا، وفي عام 2002م، اتهمت إدارة بوش الميلشيات الإيرانية بقتل 600 جندي أمريكي، واعتبرت إدارة بوش إيران ثالث ثالوث «معسكر الشر» وخرجت أمريكا من العراق وتغاضت عن سيطرة إيران عليه. أتى أوباما وبعد تهديد ووعيد وقع اتفاقًا نوويًا معها وخفف العقوبات عليها، فأتى ترمب وألغى الاتفاق ووصلنا لما وصلنا إليه من شد وجذب. فسياسات أمريكا تجاه إيران اتسمت دائمًا بالتأرجح بين العصا والجزرة.
وعودًا على مبدأ «الغموض البناء»، فهذا مبدأ تبناه هنري كسينجر في مفاوضات أمريكا مع الصين في عام 1973م، وأصبح بعد ذلك هذا المبدأ طابعًا غالبًا لسياسات أمريكا الخارجية إلا في حالات قليلة رغبت أمريكا فيها تبني سياسات واضحة. فالغموض البناء يسمح للطرف الأقوى فرض تفسيره على الطرف الأضعف كما فعلت إسرائيل مع الفلسطينيين خلال وبعد أوسلو. فالاتفاقيات كانت في معظمها غامضة وتتلوها نصوص تنص «صراحة» على ترك تفسيرها للمتفاوضين. ولذا استمرت المباحثات لعقدين من الزمن دونما أية نتيجة ملموسة، ثم نقل الرئيس ترمب سفارته إلى القدس لأن نصوص أوسلو تتكلم فقط عن «تحقيق تطلعات الفلسطنيين تجاه القدس»، ولم تنص على كونها عاصمة للدولة الفلسطينية كما أعلنت السلطة ذلك للشعب الفلسطيني.
وللعلم فقط فإن «اللورد كارادون»، الذي صاغ اتفاق وقف إطلاق النار المبهم بعد هزيمة الدول العربية في عام 1967م، أورد في نص الاتفاق في نسخته الإنجليزية الانسحاب «من أراض محتلة بعد الحرب»، وهو ما تمسك به الإسرائيليون، ونص في نسخته الفرنسية على الانسحاب من «الأراضي المحتلة»، النسخة التي تمسك بها العرب. كما نص الاتفاق في أجزاء منه على العودة إلى حدود «أراض مما قبل الحرب»ولم يحدد هذه الحدود، ولازال تفسير هذا القرار محل نزاع حتى يومنا هذا وربما حتى تقوم الساعة. اللورد كارادون ممثل الأمم المتحدة في هذا النزاع قال فيما بعد إنه لم يكن ليتصور أن تعود إسرائيل لحدودها السابقة لقيام الحرب، وأنها، أي إسرائيل، تحتاج لحدود آمنة تحددها ضروراتها الأمنية، ولذا تمت صياغة القرار على ذلك النحو.
جميع الاتفاقات الفلسطينية صيغت بهذا الأسلوب، أسلوب الغموض الذي يركز على الإجراءات ويهمل تمامًا التسويات النهائية. ولذا فكل إدارة أمريكية تورث هذا النزاع الأهم في الشرق الأوسط للإدارة التي تليها، ومازالت مسيرة المفاوضات مستمرة من عام 1967م وربما ما قبلها، ولم تحل أية قضية بشكل نهائي، اتفاقيات مرحلية واتفاقيات على مواصلة المفاوضات على نقاط غامضة ضمنت في الاتفاقيات تؤكد استمرار الإجراءات وتؤجل الحل.
إيران بعجرفتها، وسياساتها التوسعية المبنية على عقيدة طائفية تشابه العجرفة الإسرائيلية أو ربما أشد، خلقت بؤر صراع في منطقتنا أرهقت بعض دولها العربية، ومزقت دولاً أخرى ففتحت الباب لإسرائيل على مصراعيه بأن تفرض تسويات تاريخية من طرف واحد على العرب منها قضم أراضي الضفة الغربية بالتوسع الاستيطاني، وكذلك ضم الجولان بشكل نهائي لها بشكل علني مع ما يشاع عن اتفاقيات سرية بين الأسد وإسرائيل حولها. نمر اليوم بمنعطف خطير في منطقتنا، وسياسات «اللعم»، لا ونعم، تصعيد لا تصعيد، تجاذبات حالية في هذه الزاوية الحساسة من العالم، وسواءً كانت هناك حرب شاملة، حرب محدودة، أو لا حرب فلابد من مفاوضات، وأعتقد أنه يتوجب علينا مراقبة صياغة الاتفاقيات، ونصر على الوضوح ونتجنب فخ «الغموض البناء». وكل عام وأنتم بخير وتقبل الله طاعاتكم.