د. حسن بن فهد الهويمل
الأمةُ الإسلاميةُ تفرغُ من موسم خيرٍ عمَّت بركاته, لتدخلَ في مواسم أخرى, تضاعف فيها الحسنات, وتكفر فيها السيئات.
إنها أسواق يستبق فيها المسلمون الخيرات, وكأنها فترات إضافية لمراجعة الحسابات, وتدارك الفوات.
هذه الفرص ينتهزها المفرطون في جنب الله, ويزداد فيها الأوابون خيراً.
رحل رمضان, بصيامه, وقيامه, وروحانياته. وكل صائم وَدَّعه, وَأَوْدعه. والسعيد من ثقلت حمولته. ومَن سَوَّف بين يديه مواسم أخرى:-
الأشهر الحرام, والحج, وعشر ذي الحجة؛ فبإمكانه إن يعوض الفوات. المهم ألَّا يحبطه التقصير, وألَّا يفت الشيطان في عضده, ويحمله على القنوط, واليأس من رحمة الله :- {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون}.
ومؤشرات الفوز, والقبول, في انعكاس أثر رمضان على سلوك المرء بعد رحيله. والمقَصِّرون تحملهم روحانياته على مضاعفة الأعمال الصالحة, والخلوص من قوادح الاستقامة.
وفي ظل تتابع المواسم, فإن للإسلام مقاصده في تلك المواسم. وواجب المسلم تفادي الخروج على المقاصد.
ومصطلح (المقاصد) مرتبط بالفهم الصحيح للإسلام, وليس مرتبطاً بمجرد المعنى الوضعي: للكلمة, أو للجملة, أو للعبارة.
الأشواط الدلالية للنص التشريعي ليست مستقلة بدلالاتها البنائية في الجملة, أو العبارة, ولا بأحكامها المباشرة.. بل هناك عموم وخصوص، وسياقات وأنساق، وحقائق ومجازات، وناسخ ومنسوخ، ومطلق ومقيد.
وهناك في النهاية (متلقٍّ) لديه فهمه الخاص, وتأويله, وقراءته غير البريئة. وهنا مكمن الخطورة.
وتأتي (المقاصد) لتحدد المراد, وتقيد المتلقي. ومصطلح (المقاصد) عالجه العلماء وفق مذاهبهم, وقواعدهم, وأصولهم.
وهي ضوابط مشروعة، اتخذها العلماء لأطر الاجتهاد, والحيلولة دون إجهاض النص, الذي حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم:-
«يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله, يَنْفُون عنه تحريف الغالين, وانتحال المبطلين, وتأويل الجاهلين».
إذ ما أضاع الأمة, وأذهب ريحها إلا هذه الأصناف الثلاثة:- (الغالي), و(المبطل), و(الجاهل). وكلهم الآن يمارسون جهالاتهم, وضلالاتهم عبر ما أتيح لهم من مواقع, وقنوات.
والمقصود ببشارة الرسول أن النص التشريعي في (الوحيين): القرآن, وصحيح السنة يحمله في كل قرن عدول العلماء, يجددون أمر الدين. والأصل في العالم الرباني: العدل, والثقة, والنزاهة, والتيسير, والنصح لأئمة المسلمين, وعامتهم.
فمواسم البركات والخيرات لها (مقاصد)، يجب أن يعيها العلماء, وأن يفهمها العامة, لكيلا تفقد مقاصدها, ثم تضل الأمة, وتفقد عزتها.
الأمة الإسلامية وسط في كل شيء {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق, فإن المنبتّ لا أرضاً قطع, ولا ظهراً أبقى».
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} بعد قوله:- {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
إن هناك تخييرات للتسهيل:- {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}؛ إذ لا يجوز التقعر, ولا الحَدِّيَّة.
فحين أمر الله (بني إسرائيل) بذبح البقرة لم يمتثلوا, بل تساءلوا, ورددوا التساؤل, فشطط الله عليهم, ولو أنهم أخذوا الأمر ببساطة, وامتدت أيديهم إلى أقرب بقرة, لما حصل منهم ولا لهم ما حصل.
وما أُتي الإسلام إلا من الغلو, والتشدد, والحِدَّة, والحدِّية, والتطرف.
لقد فقدت الأمة بهذه المفاهيم الغالية أشياء كثيرة, وتعرضت لنكسات موجعة, وأثارت عليها قوى معادية, أرهقتها, وأذلتها, وشتتت شملها.
لقد شذت (ملل, ونحل) تنتمي إلى الإسلام, وأوغلت في الخرافة, والتطرف, ومخالفة المقاصد, وحمَّلت الإسلام جرائرها.
وكيف يكون التطرف, والرسول أرسل (رحمة للعالمين), وليس للمسلمين وحدهم. وفي الأثر:- «إني إنما بعثت بالحنيفية السمحة». وفي البخاري معلقاً في باب (الدين يسر):- «أَحَبُّ الدِّيِن إِلى الله الحنيفية السمحة». وقد وصل التعليق طائفة من العلماء.
لقد تمخض هذا الشهر الكريم عن بركات عمت أرجاء المعمورة في (القمة الإسلامية)، نسأل الله أن تعي أمتنا مقاصد التسامح, والوسطية, وألا تلتبس عليها الأمور, وألا تختطف أيُّ طائفة, أو حزب الوثيقة لصالحها.
التطرف, والغلو, وتصدُّر أنصاف المتعلمين منابر الدعوة والتشريع، كلف الأمة الإسلامية الشيء الكثير, وشق عليها, وحقق فيها نبوءة الرسول (الحُثَالة, والغثائية, والرويبضة).