أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: سورة النازعات سورة مكية نزلت بعد سورة النبأ، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ.. تسمى سورة النازعات، وسورة الساهرة، وسورة الطامة، والمقسم به في هذه السورة محذوف، وإنما ذكر صفاته.. واختلف المفسرون في هذا المقسم به المحذوف ما هو؟.. وهل هو شيء واحد ذو صفات خمس، أم أن الله أقسم بأشياء؟؛ ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يبين مراد الله: أي يبين ما هو الشيء المقسم به، وإنما روى (ابن مردويه) كما في كتاب (الدر المنثور) للسيوطي عن معاذ بن جبل قال: كلاب في النار تنشط اللحم والعظم.. ولو صح هذا الخبر لحسم به المفسرون الخلاف في تفسير الناشطات، بل إنهم أغفلوا عن هذا المعنى في وجوه التفسير مما يدل على عدم صحته، وإذ لم يصح بيان من الشرع بالمقسم به فقد ذهب الإمام (أبو جعفر ابن جرير) رحمه الله تعالى إلى إطلاق المقسم به دون أن يحدد بشيىء معين؛ فيكون المقسم به كل ما اتصف بالنزع والنشط والسبح والسبق والتدبير، والمنهج المختار عندي: أن المقسم به محدد معين غير مطلق في علم الله جل جلاله؛ لأن (أل) في الكلمات الخمس للتعريف ولا دليل من نص الآية على الاستغراق الذي يصح به إطلاق المقسم به، ولما كان المقسم به غير مبين بنص شرعي آخر فالمنهج التوقف عن تحديده على سبيل الجزم، أو الظن المرسل.. والفرق بين هذا المنهج وبين منهج (ابن جرير) رحمه الله تعالى: أن منهج (ابن جرير) يقتضي إدخال كل نازع في المقسم به، وإدخال كل ناشط في المقسم به، وهكذا؛ أما المنهج الذي اخترته فلا يقتضي دخول كل نازع؛ بل لا بد من يقين، أو رجحان على أن المقسم به نازع معين، وإذا ترجح لنا باجتهادنا معرفة المقسم به، وكان هذا الراجح غير معروف لنا بحسنا البشري كالملائكة: فيجب أن نتوقف في تكييف التفسير؛ لأن حسنا لا يعرف الملائكة ولا يكيفه؛ فلا نكيف معنى فعلها في قول الله سبحانه وتعالى (غرقاً): أهو من (الغرق) أم بمعنى (الإغراق)؟.. ولا نجزم بمن يقع عليه الإغراق: أهو على أرواح الكفار، أم على أرواح المؤمنين؟.. وكذلك النزع لا نكيفه، ولا ندري أهو نزعها للأرواح، أم نزعها لأنفسها بمعنى انطلاقها في ملكوت الله، ومبنى هذا المنهج الذي ذكرته لكم قائم على حقيقة محسوسة، وهي أن معاني لغة العرب أعم من مراد المتكلم، والقرآن هو مراد الله، وقد نزل بلغة العرب؛ فهو أخص من لغة العرب، لأن الكلمات في لغة العرب تحتمل أكثر من معنى يريده المتكلم.. أممراد المتكلم في حقيقته فيعني شيئاً محدداً، وعلى هذا نقول: النزع في لغة العرب يعني القلع، والانطلاق، ويصلح استعماله للنازع نفسه بأن يكون نزع نفسه من شيء، ويصلح استعماله للنازع مع غيره بأن يكون نزع شيئاً من شيء.. ومراد المتكلم يجوز أن يكون جامعاً لكل المعاني إذا لم يتناقض الجمع بينها، ودل الدليل على إرادة جميعها، ويجوز أن يكون محدداً بمعنى معين؛ فإذا لم يقع برهان يعين مراد المتكلم بقيت المعاني اللغوية على الاحتمال؛ فلا يجوز تحديد أحدها، أو بعضها بلا برهان، ولا يجوز القول بها كلها بلا برهان؛ بل تبقى العقيدة على أن مراد الله لا يخرج عن المعاني العربية المحتملة، والله سبحانه وتعالى أقسم في هذه السورة بشيء من مخلوقاته، كما أقسم بعدد من مخلوقاته في مواضع أخرى، والإقسام بالشيء يعني تعظيمه، وقد علم بالاستقراء أن ما أقسم الله به منه ما هو معظم عند الناس كالشمس والقمر، ومنه ما هو مغفول عن عظمته؛ فلما أقسم الله به علم ما فيه من عظمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى عظمه بالإقسام به، ولله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنه خالقها؛ فهو الأعلم سبحانه وتعالى بوجه العظمة فيها، وبيان ربنا سبحانه وتعالى لعظمة مخلوقاته برهان على عظمة الخالق جل جلاله، ولا يجوز لنا نحن البشر أن نقسم بغير الله جل جلاله؛ لأن الرسول المبلغ عن ربه نهانا عن القسم بغير الله، ولأن الله يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل.. أما نحن فمسؤولون عن فعلنا، ولا نفعل إلا ما أباح الله لنا فعله، أو أوجبه، أو ندب إليه، و القسم كما هو المعتاد عند الناس يعني جلب اليقين إلى قلب المخاطب؛ لأن المقسم به معظم عند المخاطب والمتكلم، والقرآن نزل بأسلوب العرب؛ فجلب انتباههم بالقسم، وكثر القسم في أوائل السور؛ لجلب الانتباه، وما أقسم الله به من مخلوقاته: فمقاصده مختلفة، فمن ذلك تقرير وجود المقسم به كإقسام الله بيوم القيامة، أو تشريفه كإقسام الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالطور، أو دلالته على الخالق لبيان عظمته مع بيان حدوثه كإقسام الله بالشمس، وتأويل المقسم به في سورة النازعات على أنه الملائكة هو مذهب جمهور السلف من التابعين، ومذهب من نقل عنه قول من الصحابة رضوان الله عليهم.. فإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.