د.عبد الرحمن الحبيب
يطيب لكثير من الناس التعامل مع الأخبار السياسية كقصص خيالية وتحليلها كأفلام هوليوود السياسية سواء تلك التي تحكي عن منظمة سرية تسيطر على العالم، أو دولة عظمى تُحرك دول العالم بالخفاء كيفما شاءت.. وقد تستبدل الرواية برجل استخبارات وسيم طيب وشجاع (جيمس بوند) ينقذ بلده والعالم ضد الأشرار، يستعاض عنه بالعالم الثالث بقائد «ثوري ملهم»!
تلك قصص مشوّقة تثير العواطف وأيضاً مريحة لأنها بسيطة لا تتطلب عناء تحليل الوضع المعقد للواقع الفعلي وما يحتاجه من متابعة وبحث، كما أنها تناسب كثيراً القنوات الإعلامية لأنها تجلب الجمهور أضعاف ما تجلبه التحليلات الموضوعية المملة..
«حكومة العالم الخفية» من عناوين أطلقتها بعض وسائل الإعلام الأسبوع الماضي على اجتماع 130 شخصية نافذة بالعالم الغربي من سياسيين ورجال مال وأعمال، بمنتجع فخم بسويسرا، ضمن إطار اجتماعات «مجموعة بلدربيرغ» السرية.. وممن حضره: وزير الخارجية الأمريكي بومبيو والوزير الأسبق كيسنجر، وجاريد كوشنر، وكبار مسؤولي بنك إنجلترا وجوجل ومايكروسوفت.. فما قصة بلدربيرغ التي اعتبرها البعض منظمة سرية تحكم العالم؟
اسم المجموعة نسبة لفندق بلدربيرغ بقرية أوستيربيك بهولندا، حيث عقد أول اجتماع عام 1954، بعد دعوات من سياسيين أوربيين على خلفية القلق من نمو العداء لأمريكا في أوروبا الغربية. أدى نجاح الاجتماع بالمنظمين لإنشاء لجنة دائمة لها سكرتير لتنظيم مؤتمر سنوي، ولديها مكتب صغير بهولندا.
لنبدأ بما تقوله بلدربيرغ عن نفسها بموقعها في الإنترنت.. تقول إن لاجتماعها السنوي هدف رئيسي واحد: تعزيز النقاش والحوار بين أوروبا وأمريكا الشمالية؛ وأن الدعوة للاجتماع تتم لقادة سياسيين وخبراء ورجال أعمال وأكاديميين وإعلاميين بارزين يتغيِّرون من سنة لأخرى، ويشاركون كأفراد بلا صفة رسمية، حوالي ثلثيهم من أوربا الغربية والباقي من أمريكا الشمالية؛ وأن الاجتماع عبارة عن منتدى للمناقشات غير الرسمية حول القضايا الرئيسية، يحق للمشاركين استخدام المعلومات المتداولة، لكن دون الكشف عن هوية المتحدثين أو أي مشارك آخر.. وفي هذه الاجتماعات لا يتم اقتراح أي قرارات، ولا التصويت، ولا يصدر بيانات سياسية، بل مجرد بيان قائمة المواضيع والمشاركين.
الاجتماع يحاط بحراسة مشدَّدة وسرية تامة، فلا محاضر اجتماع ولا بيان ختامي ولا يقدم أي تصريح للإعلام. الحراسة المشددة بناءً على طلب بعض المشاركين، تقول بلدربيرغ؛ أما السرية فلكي يشعر المشاركون بالطمأنينة فيما يطرحونهم..
بطبيعة الحال، تلك مواصفات تشكِّل مادة مغرية لعشاق نظرية المؤامرة الذين اعتبروها حكومة عالمية خفية تهيئ للحروب وتشنها، توقد الثورات وتخمدها، وتغير اتجاهات اقتصاد العالم. المفارقة الطريفة، أنه بينما يتهم بعض اليساريين مجموعة بلدربيرغ بالتآمر لفرض الهيمنة الرأسمالية، فإن بعض اليمينيين يتهمونها بالتآمر لفرض حكومة عالمية تمهد سياساتها الطريق للشيوعية العالمية. وبينما يتهمها أمريكيون بأنها عصابة خفية لسيطرة الاتحاد الأوربي على أمريكا، فإن أوربيين يتهمونها بالعكس. ولأجل ذلك تقام المظاهرات ضدها بأوربا وأمريكا.. ومن أشهر المشاركين فيها أليكس جونز، مقدم أحد البرامج الحوارية الصاخبة بأمريكا، الذي قاطع اجتماعها عبر مكبر للصوت، قائلاً: «نعلم أنكم قساة، نعرف أنكم أشرار» واتهمهم بأنهم سبب «الربيع العربي».
دينيس هيلي، أحد مؤسسي بلدربيرغ، سبق أن قال: «القول بأننا نسعى جاهدين من أجل تشكيل حكومة عالمية واحدة أمر مبالغ فيه، ولكن ليس ظالمًا تمامًا. شعرنا نحن في بلدربيرغ أننا لا نستطيع الاستمرار بالقتال إلى الأبد من أجل لا شيء وقتل الناس وجعل الملايين بلا مأوى. لذلك شعرنا أن مجتمعًا واحدًا بجميع أنحاء العالم سيكون شيئًا جيدًا.» وقال للصحفي جون رونسون: إن الناس يغفلون الفوائد العملية لمثل تلك الشبكات غير الرسمية.. السرية مكنت الناس من الكلام بأمانة، دون خوف من العواقب» (بي بي سي). أما الغرض من السرية هو للتحدث بصراحة دون خوف الوقوع ضحية تعليقات وسائل الإعلام أو تحويرها له، ومعرفة الأفكار الفعلية للشخصيات الرئيسية (رئيس بلدربيرغ السابق إتيان دافينيون، 2011).
ليس كل خصوم بلدربيرغ يؤمنون بنظرية المؤامرة بطريقة القصص المبسطة، فهناك من يحللها موضوعياً وينتقد أساليبها لافتقادها للشفافية ومحاولة تأثيرها على القرارات.. إحدى الدراسات الأكاديمية انتُقدت المجموعة لمحاولة التأثير بالأحداث الجيوسياسية خارج دائرة الضوء العام، معتبرة أنها أحد الأليات لتحقيق المصالح الرأسمالية (مايك بيترز، 1996).
يقول البروفيسور أندرو كاكابادسي، أحد مؤلفي كتاب «أفراد بلدربيرغ»: «مع فقدان الشفافية فمن السهل فهم قلق الناس من نفوذها.» وبرأيه أن الفكرة الرابطة لبلدربيرغ هي دعم اتفاق الآراء حول سوق رأسمالية غربية حرة ومصالحها في أنحاء العالم. ومن ثم هي لحد ما تتحرك لصالح حكومة واحدة للعالم، في سوق رأسمالية غربية حرة». جيمس ماكوناتشي، المشارك بتأليف كتاب «دليل سريع لنظريات المؤامرة»، يرى أن القول بأنها جماعة تسعى لإيجاد نظام بعالم يتسم بالفوضى. «صحيح، لكن فيه مبالغة».
أما دايفيد آرونوفيتش، الكاتب بصحيفة التايمز البريطانية، فيقول: «الغضب المثار بشأن بيلديربيرغ سخيف.. إذا كان لديك اعتقاد راسخ بجماعة بيلديربيرغ [كمتحكم بالعالم]، فهذا يعني إيمانك بالخيال. ويعني أن هناك أناساً، يشبهون الإله، ويتصرفون وكأنهم قوى عليا. ويعني أيضاً ألا شيء يعمل، وأن العالم يعيش في فوضى».