د.عبدالله سعد أبا حسين
(الدّنّينية) مُصطلح يدلّ على لُعبة أطفال في الفترة من سنة 1380هـ إلى سنة 1400هـ، ووُلدت في مجتمعنا السعودي بعد دخول الدّرّاجات الهوائيّة (السياكل)، وكثرة استخدامها، ولمّا خلّفت (السّياكل) بقايا (تشليح)، وكان النّاس آنذاك يستغلّون كلّ ما يُمكن استغلاله؛ انفتح الأطفال على لُعبة جديدة، ثمّ غابت اللعبة، ولم أُشاهدها منذ سنة 1400هـ تقريباً.
و(اللاق) مُصطلح يستعمله أبناؤنا (8-17) سنة، وتبيّن بعد سؤال شرائح متفرّقة منهم أنّه يدلُّ على انفصال شبكة الإنترنت، ومنه قيل: (لقلق)، ويعني أنّ الشبكة تتراوح بين الاتّصال والانفصال، وتوسّع أبناؤنا في استخدامه، وصاروا يقولون فيما بينهم: فلان يُلقلق، يعني يتّصل باللعبة وينفصل، أو فُلان لاق يعني لم يتّصل باللعبة، ثمّ خرج المصطلح من محيط اللعب، واستُعمل لمعنىً مُشابه، وصار مُشتركاً لسانيّاً بين أبناء المرحلة المتوسّطة والثانويّة.
ومن المُصطلحات التي انبعثت من لعب أبناءنا (8-17) سنة لتُستعمل في غير محيط اللعب بحسب إفادة شرائح متفرّقة منهم: (نُوْب)، وهي كلمة تُستعمل في لُعبة بلاي ستيشن الشهيرة (فورت نايت)، وتعني: لاعباً مُبتدئاً، وتوسّع استعمالها لتُطلق على من لا يُحسن التصرّف في أيّ أمرٍ لقلّة خبرته، ووجدتها مُستعملةً قبلُ بين الجنود الأمريكان في حرب فيتنام، ويعنون بها: الجنديَّ المُبتدئ في الوحدة، ثمّ ظهر استعمالها في منتديات الإنترنت غير العربيّة لمعنىً مُشابه. و(معرّق)، وتعني في لعبة (فورت نايت): لاعباً يُقاتل بلا توقّف ولا استراحة. و(باك)، وتعني: رجعت إلى اللّعبة بعد انقطاعي عنها، و(تيت)، وتعني: خُذ وقتك، و(انزل لي)، ومعناها: قابلني أو نازلني.
لقد اعتادت المجتمعات البشريّة بحسب قراءتي المتواضعة للتاريخ أن تولد فيها المصطلحات بحسب حاجة المُجتمع أو احتكاكه بغيره، وإذا استعملت فئة من فئات المجتمع مُصطلحاً فإنّ معناه لا يخفى على الفئات الأخرى أو بعضها، مثل المصطلحات التي دخلت على مجتمعنا السعوديّ قبل 70-90 سنة تقريباً، ومنها: (بزبوز، وقوطي، وباغة، وماصورة، وقراش)، ومُصطلحات ألعاب شبابهم وأطفالهم الحادثة: (الدنّنينة)، و(الطّجمة)، و(المصاقيل)، وما تفرّع عن تلكم الألعاب من كلمات ذات دلالات على سير اللعبة، فإنّها كانت معروفةً لدى بعض فئات المُجتمع، ولم تُستعمل خارج محيط اللعب؛ مثل عبارة: (لك حبّة) في لعبة المصاقيل، وتعني: لك فرصة تتحرّك بمصقالك، فهذه العبارة كان يُمكن لها أن تُستعمل خارج مُحيط اللعبة؛ إلا أنّها لم تُراوح.
وبحسب خبرتي الحياتيّة فإنّ الصّغير يدخل عالم الكبار، وتطرق سمعه مُصطلحاتٌ لا يعرف معناها، ويوطّن نفسه على تعلّمها ليلحق بالرّكب، والفردَ ينتقل من مجتمعه إلى مجتمع آخر، ويضطرّ إلى تعلّم مُصطلحات، ولم يصل إلى علمي وخبرتي أنّ فئة الشباب الصّغار يشتركون في استعمال مُصطلحٍ أساسه ألعابهم الخاصّة الحادثة، ولا يعرف معناه الأربعينيّ، ثمّ يسأل الأربعينيُّ الثلاثينيَّ، ولا يعرف معناه أيضاً.
إنّ الأربعينيّين وما فوقهم؛ بعثوا إلى مجتمعنا السّعودي مُصطلحَ (شرحك سرى) الخاصّ بلعبة البلوت خلال العقد الماضي، ويعني أنّ حالي مثل حالك، ولم يخرج استعمال المصطلح خارج اللعبة إلا بعد تعاقب أجيال على لعبها، بينما وجدنا أنّه تتسلّل إلى مُجتمعنا في الفترة القصيرة الماضية مُصطلحاتٌ؛ مثل: (يطقطق)، و(ما يمديني)، و(فكك)، و(سَبَك)، ويبدو لي أنّ بعضها خرج من محيط (الدّرباويّة) الذي نشأ قريباً، والمقصود أنّ انتقال استعمال المُصطلح من اللعبة إلى خارجها ليس جديداً في حراك المُصطلحات، وأنّ حراك مُصطلح (شرحك سرى) وأمثاله يُشبه إلى حدٍّ ما حراك مُصطلح (لاق)، و(نُوْب)، و(معرّق)، لكنّ شيئاً ما يجعلني أُفرّق بين هذا وذاك، فإنّ سرعة انبعاث المصطلحات الثلاثة الأخيرة، والتحقّقَ من عُزلة حراكها عن فئة الأربعينيّين وما فوق، مع التحقّق من انتشارها بين أفراد فئة (8-17) سنة؛ يجعلني أتخوّف من وجود شرخٍ اجتماعيّ غير مسبوق في تاريخ المُجتمعات البشريّة، بل إنّ التعمّق في هذه الظّاهرة وأسبابها وما يتّصل بها أو يترتّب عليها من آثار على التعليم والاقتصاد وغيرهما يجعلني أستحثُّ أذهان النّاصحين لاستشراف مستقبل الاقتصاد والتعليم.
لقد وجدتُ قاموس اللغة الانجليزيّة يعترف باعتماد ما يُقارب عشرين ألف كلمة جديدة في الفترة من (2009م) إلى (2013م) بحسب دراسة في جامعة هارفارد، كما أنّ موقعي قاموس أكسفورد(oxforddictionaries.com) ، وقاموس ويستر الأمريكي (merriam-webster.com) لا يتوقّف إمدادهما من لُغة الشّارع التي غالباً ما تتحرّك ابتداءً وسُرعةً بحسب حراك التقنيّة المُتجدّدة، وما يتّصل بها من كلماتٍ ذاتِ دلالاتٍ على استعمالاتنا في حياتنا اليوميّة فضلاً عن ميداني التعليم المتخصّص والاقتصاد [يُنظر مقال بعنوان (كلمة جديدة كل 98 دقيقة) للكاتب فهد بن عامر الأحمدي، جريدة الرياض، السبت 18 رمضان 1434هـ- 27 يوليو 2013م، العدد 16469، ويُمكنك البحث عن طريق محرّك قوقل عن الكلمات الجديدة سنة 2014م، ثمّ التي تليها إلى سنة 2019م، وانظر إلى ما كُتب عن مصادرها من أفلام أو اختصارات عبارات وغيرها]، ووقفتُ على مقالات غير عربيّة تُثبت أثر تغاير ثقافة الأجيال المتّصلة بالتقنيّة المتجدّدة على كفاءة أداء الموظّف في الشركات الكُبرى [يُنظر ـ مثلاً ـ مقال على شبكة الإنترنت بعنوان Understanding Today›s Workforce: Generational Differences and the Technologies They Use]، ولا يُمكن فصل تلكم الثقافة عن الكلمات الجديدة المتّصلة بها.
إذا كان تزايد الكلمات الانجليزية كما ذكرنا، وكان أكثر إمداد القواميس الكُبرى مُشتركاً بين المجتمعات المتقدّمة وهو التقنيّة المتجدّدة وعالم الاتصال والإنترنت والإعلام الجديد، وكان أبناؤنا المبتعثون يتعلّمون الانجليزيّة كلّ سنة؛ فإنّنا نتيقّن من أنّ ابننا المُبتعث قبل خمس سنين قد فاته عشرون ألف كلمة مُعتمدة، وضعفُ العشرين ألف كلمة في طريقه إلى الاعتماد، وجُلّ الكلمات الجديدة فرضها واقعٌ مُشترك.
وممّا يُبيّن صلة الموضوع بالتعليم وغيره: أنّ هناك مسمّيات ومصطلحات تتردّد في ممرّات وساحات مدارسنا المتوسّطة والثانويّة، ثمّ تُزفّ إلى جامعاتنا معلنةً أنّ معلّم عام 1430هـ في (الإعلام والحاسب وتقنية المعلومات) لا يتواءم مع مسلّمات التعليم في ذات التخصّص سنة 1440هـ، والتي تنصّ على أنّ المراجع قبل 10 سنوات لا يُلتفت إليها، كما أنّ الشركات الخاصّة تُقيّم أداء موظّفيها كلّ فترة مهما بلغت مقدرة الموظّف وكفاءته وموهبته، وتُقدّم وتؤخّر في الأكفأ بناءً على معاييرَ تعتمد في الدّرجة الأولى على مواكبة التغيّر وتجدّد التقنيّة، وبالتالي فإنّ القطاع الحكومي سيُسبقُ إذا لم يفعل ذات الفعل.
أعود لمُبتدأ المقال وأساسه، وهو الظاهرة الاجتماعيّة، فأقول: إنّ الواجب على المتخصّصين الاجتماعيّين إعمال أذهانهم ليُحلّلوا نتائج ظاهرة غريبة، ويستنطقوا آثارها على تفكّكٍ نسبيٍّ بين مكوّنات المجتمع، وربما عُزلة الأربعيني ـ وما فوق ـ عن معظم أفراد المجتمع السّعودي الذي ثبت بحسب ما نسمع أنّ 60-70 % منه دون الثلاثين.
وإذا كانت العوالم الخفيّة في أيدي أبناءنا وغرفهم تنتج لساناً مُشتركاً لا نفهمه، وكانت الجريمة تتجدّد بحسب تجدّد التقنية، وتستغلّ الغفلة عن رصد المتغيّر واستنتاج أثره وخطره؛ فإنّ الأمر يستوجب التدخّل بالدراسة وإيجاد حلول التثقيف الملائمة، والتي لا تتصادم مع رغبات أبناءنا، ولا مع دخول الألعاب وتجدّد التقنيّة الخاصّة بها، وإنّما تحتويها وتوعّي بالمخاطر المحتملة؟
إنّ الظاهرة المذكورة وما بَعَثَتْه من قلقٍ وتساؤلٍ لا تخصّ مجتمعاً متقدّماً دون آخر، ولكنّ هذا لا يعني تغافلنا نحن السعوديّون، أو انتظار ما يفعله الآخرون لنحتذي حذوه.
اللهم احفظ على مجتمعنا تماسكه وترابطه، واحفظ على أبنائنا دينهم وعقولهم، وأصلح دنياهم وآخرتهم.