ياسر صالح البهيجان
لم يعد وجود مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية أو ما يُعرف باسم «مخازن التفكير» في المجتمعات الحديثة أمرًا ثانويًا في ظل تعدد التحديات الوطنية منذ أن أطلت العولمة برأسها على البشرية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والتي أسفرت عن إنشاء أكثر من 50 بالمائة من مراكز الأبحاث القائمة حاليًا والتي يقدَّر عددها بما يزيد عن 7500 مركز بحث حول العالم.
ما يميّز انتشار «مخازن التفكير» هو قدرتها على منح صنّاع القرار في مختلف مؤسسات الدولة رؤى متعددة حول القضايا الراهنة، انطلاقًا من دراسات تمزج بين الشق النظري التأصيلي والبحوث الميدانية التطبيقية، في إطار وطني يهدف إلى تحقيق النماء والازدهار للمجتمع، فضلاً عن دورها التثقيفي للسكّان ومساهمتها في رفع مستوى الوعي من خلال الأبحاث المنشورة والتي يجريها نخبة من الباحثين والدارسين الأكفاء القادرين على بلورة الحقائق والمعلومات على هيئة توصيات قابلة للتنفيذ ومن شأنها أن تحدث التغيير الإيجابي في مختلف القطاعات.
والحق أن «مخازن التفكير» استحالت إلى سمة حضارية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنمو المعرفي للمجتمعات، وباتت ذات صلة بالتعددية الفكريّة والتنوع الثقافي، إذ تمثّل الاستفادة القصوى من عقول المواطنين وتوظيف طاقاتهم الفكريّة فيما يخدم المصلحة العامة، ويغذّي مختلف قطاعات الدولة بالمعلومات والدراسات اللازمة لبناء سياسة لا تنفك عن الحاضر ولا تغفل التحولات المتوقّعة في المستقبل.
لنكن أكثر إنصافًا، فإن جامعاتنا الكبرى تضم مراكز أبحاث علمية رصينة لها باعها في النشر والتوثيق، لكن معظمها لا ينتج سوى دراسات جامعية لا تتجاوز تخصصات دقيقة في نطاق محدود للغاية، وهي تعاني من شحّ التمويل تارة وفقدان الصلاحيّات المناطة بها تارة ثانية، ولسنا في موضع تحميلها ما لا طاقة لها به، وما يهمنا هو أنها مهيأة للعب دور أكبر وإنتاج دراسات وأبحاث ذات أثر أعمق ومردود إيجابي أكبر.
المرحلة الحالية تتطلب اتجاهنا نحو إنشاء «مخازن التفكير» والدمج بين طاقات الشباب وذوي الخبرة من المواطنين والمواطنات، لنبني صروحًا بحثية ضخمة قادرة على المنافسة عالميًا بإنتاجات تبرهن على حجم المخزون الفكري لدينا، وهذه النقلة في المجال البحثي لم تعد بعيدة المنال في ظل رؤيتنا الطموحة القادرة على ابتلاع جميع التحديات.