د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
لحروف المعاني أهمية ومنزلة عالية في كل لغة؛ فهي قسيمة الاسم والفعل في القسمة الكبرى للكلم، وتظهر أهمية هذه الحروف في اختلافها عن قسيميها في الدلالة؛ إذ دلالة الأسماء والأفعال معجمية خاصة، أما الحروف فدلالتها وظيفية سياقية عامة، ولذلك عرّف النحويون الحرف بأنه ما يكون له معنى في غيره، ولا تستوي دلالات كثير من التراكيب إلا بحروف المعاني؛ إذ بها يكون التوكيد والنفي، وبها يكون الاستفهام والشرط، وبها يكون العطف والجر والاستثناء، والتعليل والتشبيه والنداء، ومن أجل ذلك نالت الحروف عناية علماء اللغة القدماء والمحدثين، واختلفت طرائقهم في درس قضايا الحروف وصفًا واستقراءً وتحليلًا واستنتاجًا. ومن المهم معرفة المنطلقات المعرفية والفكرية التي وجهت هذه الجهود التراثية والمعاصرة؛ ومن هنا يأتي هذا العمل الذي أقدمه.
الدكتور معاذ بن سليمان الدخيّل عرفته أول ما عرفته في منتدى الفصيح الذي كان يشارك فيه باسم مستعار، ثم زادت معرفتي به حين ابتعث إلى قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود، وتبين لي من مناقشاته ومراجعاته لبعض اجتهادات شاركت بها في المنتدى، أو عرضتها في الفصل الدراسي، عمق معرفته التراثية، وحسن صدوره عنها، ووضوح الفكر، واقتدار على الصياغة المتسمة بالسلامة اللغوية. ولمست منه بعد ذلك رغبة شديدة في توسيع دائرة الاهتمام المعرفي؛ إذ لم ينكفئ على التراث أو يقنع به؛ ولذلك انطلق يقرأ ما أُتيح له من منجزات اللسانيات مؤلفًا أو مترجمًا، واستطاع أن يتمثله خير تمثل، ولم يكن غرضه استبدالاً لسانيًّا حديثًا بتراثيّ قديم، بل كان غرضه أسمى من ذلك، وهو الانتفاع من خير ما في المنجزين انطلاقًا من أن لّيس كل قديم مطّرحًا لقدمه، وليس كل حديث مقبولاً لحداثته، وانطلاقًا من أنّ المعرفة الإنسانية مبنية على التراكم الإيجابي، وعلى أنّ من الخير سدّ الفجوة بين القديم والحديث، وربط أسباب العتيق بالعتيد، ونجح في استثمار ثقافته اللسانية ومعرفته التراثية في معالجة موضوع رسالته لدرجة الماجستير، وهي «منزلة معاني الكلام من علم الإعراب: شرح الرضيّ على الكافية أنموذجًا».
تنبه الباحثُ أثناء إعداده تلك الرسالة إلى أهمية الحرف ومنزلته، وهو أحد أقسام الكلم في العربيّة، وإلى أثره في بناء النظريّة النحويّة العربيّة المفسرة للعلاقة بين المعنى والمبنى، ومن ذلك الكلمة: أقسامها وسماتها، بناؤها وإعرابها، أو جمودها وتصرفها، أو تنكيرها وتعريفها، إفرادها وتركيبها، توحيدها وجمعها، وغير ذلك من صفاتها. وتبيَّن له من معالجات القدماء للظواهر اللغويّة أنّ الحرفيّة سمة قد تظهر في كلمات، أو تراكيب لا تنتمي إلى الحرفيّة انتماءً صرفًا، فتكون في جملة من الأسماء، أو الأفعال، أو التراكيب، ويختلف ظهور هذه السمة قوة وضعفًا، قربًا وبعدًا، وهو أمر يجده المتتبع نصوص القدماء المتأمّل إياها.
ويأتي هذا الكتاب الذي هو ثمرة رسالة الدكتوراه «منزلة الحرف في التفكير النحويّ العربيّ بين القدماء والمحدثين» متابعة لما تنبه إليه في عمله السابق، وتعميقًا لقسم مهم من أقسام الكلم، هو الحرف بتنوعاته وتعدد وظائفه المؤثرة في جعل الكلم كلامًا، به يكون التواصل الإنساني وإبداعه وفكره. وظهر من العنوان اتجاهه نحو مدّ الجسور بين الدرس اللسانيّ الحديث والتراث النحويّ العربيّ.
ومن أجل تحقيق غايته أدار بحثه حول ثلاثة محاور، هي فصول الرسالة الثلاثة، أولها (المحدّدات النظريّة الموجّهة للقدماء والمحدثين في قضايا الحرف)، وثانيها (منزلة الحرف الطرازيّة ضمن نظريّة أقسام الكلم التراثيّة)، وثالثها (المظاهر الطرازيّة المسيّرة لعلاقة الحروف بعضها ببعض في ضوء منوال محمد صلاح الدين الشريف).