د عبدالله بن أحمد الفيفي
عندما يُراجِع الباحث المعاصر كثيرًا ممَّا كان يتناقله علماؤنا في حقلَي اللغة والنحو، يجد ما يفرض عليه إعادة النظر فيما كانوا يختلفون فيه؛ لأسباب متعدِّدة. منها، على سبيل النموذج:
1) داءٌ تراثيٌّ عامٌّ في التعامل مع النصوص، هو إغفال السياقات. فكثيرًا ما يقِفون على النصِّ مبتوتًا عن سياقه الداخليِّ أو الخارجي. وقد رأينا في المساق السابق كيف أثَّر إهمال السياق في استنتاجات اللغويين والنحويين، حينما وقفوا أمام بيت الشاعر:
لقد فَرَّقَ الواشِينَ بَيني وبَينها، فقَرَّتْ بِذاكَ الوَصْلِ عيني وعينُها
فزعموا أن الشاعر- الذي لا ندري من هو - قال: «بيني وبينُها»، من حيث ظنُّوا القافية مصرَّعةً، وإنْ لم يعرفوا سياق البيت. لكنهم حاروا في الشطر الثاني؛ فأضافوا زعمًا آخَر: أن البَين هنا بمعنى الوصل! مع أن للبيت وجهًا شِعريًّا، دون حاجةٍ للدعوَى أن البَين يعني الوصل، بالقول: إن الشاعر إنما جعل البَين بمنزلة الوصل؛ لأنه أذهب عنه وعن معشوقته أعين الواشين، وإنْ كان ذاك الوصل الروحي بينهما قائمًا، وقُرَّةَ عين له ولها.
إن ظاهرة إغفال السياق، بل الاعتماد على شِعرٍ مجهول القائل، فضلًا عن الاعتماد على كلام مجانين في التقعيد للغة العربيَّة، كانت أمرًا مألوفًا بينهم. ويزيد الطِّين بلَّة معاناتهم عن فهم الشِّعر، إلَّا ذلك الفهم المعجمي النثري، الذي لا يليق بالشِّعر. وإذا كان لإغفال السياق الخارجيِّ ما يسوِّغه في النصِّ الأدبي، وَفق ما عُرِف في البنيويَّة حديثًا بموت المؤلِّف - وهو مفهومٌ للموت غير «أبدي»، على كلِّ حال! - فإنَّ إغفال السياق النَّصِّي الداخلي إنَّما جناه، على الشِّعر بخاصَّة، «مرضُ التوحُّد» الذي أصابهم جرَّاء التمسُّك بمقولة (وحدة البيت الشِّعري). يتجلَّى ذلك واضحًا في الجدَل حول أبيات (أبي الطيِّب المتنبي)، التي عُدَّت من المشكلات. ولو أنها رُبِطت بسياقاتها لما كان بعضها مشكِلًا، ولا استدعَى كثيرًا من الجِدال بين الشُّراح.
2) كانوا يبنون جدلهم اللغوي والنحوي الطويل حول شواهد شِعريَّة، والشِّعر إشكاليٌّ بطبيعته في كلِّ اللغات، حمَّال أوجه، قائمٌ على البناء البلاغي، والانحرافات الأسلوبيَّة، والحذف، والتقديم والتأخير؛ فكيف تتقرَّر على أساسه لغة النثر وقواعد الاستعمال الذهني الاعتيادي؟ خذ - مثلًا- قول (المتنبي):
لَيتَ الغَمامَ الَّذي عِندي صَواعِقُهُ
يُزيلُهُنَّ إِلى مَن عِندَهُ الدِيَمُ
«يُزيلُهُنَّ»؟
لو قال هذا البيت شاعرٌ اليوم لحُكم، من قِبل القواعديين، بالحَـدِّ؛ لما وقع فيه من الركاكة في الشِّعر، دع عنك أن يَرِد مثل هذا في النثر؛ ذلك أن عبارة «يُزيلُهُنَّ» تبدو في منطق العربيَّة قلقةً في مكانها؛ فماذا يزيل؟ «الغَمام»؟ كيف ساغ تأنيث «الغَمام»، بعد أن استخدم معه الاسم الموصول «الذي»، وأشار إليه بضمير المذكَّر: «صواعقه»؟ لقد كان حقه أن يقول إذن: «ليت الغمام... يزيله». ولنفترض أن «الغَمام» مؤنث، لمسوِّغ ما من تلك المسوّغات الكثيرة التي يتحفنا بها الشُّرّاح، أو حتى أن الضمير في «يُزيلُهُنَّ» لصواعق الغَمام لا للغَمام، مع عدم اتساق ذلك؛ فكيف ساغ أن يقول: «يُزيلُهُنَّ»، لا «يُزيلها»، فيستخدم نون النسوة مع غير العاقل؟
إنه قلق الشِّعر.
نعم، قد يتحذلق المتحذلقون، ويتفرتخ الفرتخانيُّون، فيلتمسون التخريجات البعيدة، والتخييلات التحليليَّة، لكن جوهر الأسباب هنا يظلُّ في أن للشِّعر ماهيةً خاصَّة، فوق نواميس اللغة الاعتياديَّة، والقياس عليه، والتقعيد على بنيانه فيه إغفالٌ لطبيعته الفارقة تلك.
3) كثيرًا ما يسوِّق النحويُّون شواهد مجهولة القائل. ومن ثَمَّ فلا موثيقيَّة بها، بل إن بعضها من اصطناع النحاة أنفسهم، الذين بلغ الصراع بينهم إلى درجة عدم تورُّع بعضهم من الكذب والنحل كي يُسنِد قوله بشاهدٍ شِعري. وحكاياتهم في ذلك معروفة.
4) يعاني بعض لغويينا ونحويينا، مع أسباب أخرى، من عُجمة، وجهل بأحوال العرب، وبيئاتهم، بل قد يفتقرون إلى الذوق الأدبي، والمعرفة بطبيعة الشِّعر، فتزداد مصيبتهم بمادَّة علمهم، وجُلُّها من الشِّعر.
وهذا ما يستدعي جولة أخرى من النقاش، نُرجئها إلى المساق التالي.