أ.د.محمد بن حسن الزير
ومن أَجَلّ وظائف اللغة العربية مهمتُها العظيمة في مجال العقل والفكر؛ فهي ذات مهمة حيوية في إذكاء فاعلية العقل، وتسديد فهمه؛ وذلك بسبب الصلة القوية بين اللغة والتفكير؛ من حيث إنها أداة جوهرية من أدوات التفكير، ووسائل إجراء العمليات العقلية، بصورة صحيحة ومنطقية؛ فالإنسان يفكر باللغة، من خلال مفرداتها، وأدواتها، وأساليبها، وصورها.. الخ، وبها يتمكن من القدرة على التعليل، وتحليل مكونات التعليل، وما يتصل به من صور ذهنية، ترسمها اللغة، وتبين أبعادها، وتمثل مواقف القبول والرفض والمناقشة، ومقارعة الأفكار بالأفكار، وإجراء المحاكمات العقلية المتنوعة؛ من فهم وتصور وإدراك، وتَمثُّل للأدلة والبراهين والحجج، ومتابعة تسلسل الأفكار، وترتب بعضها على بعض، والالتفات إلى منطقيتها من عدمه، كل ذلك إنما يتم من خلال الأدوات اللغوية، ومنطقها الخاص، من حيث إن اللغة العربية، ذات وظيفة عقلية فكرية تربوية.
ومن هنا كانت العربية لغة علمية معرفية، ذات قوانين منضبطة وشاملة، وذات مفردات ثرية، وواسعة تشمل جميع مجالات الحياة وأحوالها الدقيقة المتنوعة، وجميع ميادينها وحقولها، وتستطيع التعبير عن كل دقائقها، وتفصيلاتها، بكل دقة وإحكام ومنطقية، ومن هنا صارت أداة العباقرة والموهوبين؛ لإبراز مواهبهم وإبداعاتهم، وكانوا قادة الأمة ومفكريها وعلمائها؛ كل في مجاله وفنه، وصارت أداة التربية والتعليم والتعلم، ونمو الحضارة الإنسانية وسبب فاعليتها وتطورها.
ولذلك كله فاللغة العربية إحدى أهم وسائل تحقيق الأمن الفكري للإنسان ومجتمعه بامتياز؛ لما تؤديه من تشكيل وعيه الفردي والجماعي، ولما تقوم به من تحديد للمفاهيم، من خلال بناها اللغوية المتكاملة، مفردة وتركيبا وسياقا؛ فتصل به اللغة إلى سلامة التفكير، وحصافة العقل؛ ولذلك أنزل الله، تبارك وتعالى، بعلمه، رسالته إلى خلقه، في لغة عربية كاملة البيان، قويمة اللسان؛ قال الله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالته» الأنعام 124 وقال تعالى: «أنزله بعلمه» النساء 166وقال تعالى: «فاعلموا أنما أنزل بعلم الله» هود 14وقال تعالى: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» النحل 103، وقال تعالى: «وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين» الشعراء 192-195 وقال تعالى: «إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون» يوسف 2، وقال تعالى: «إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون» الزخرف 33، وقال تعالى: «كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون» فصلت 3.
ويقول أحمد الشرباصي في كتابه؛ من أدب القرآن، القاهرة- دار المعارف بمصر 1976م ص 11: «وإنسان القرآن العالم يجعل الله له رائداً وقائداً هو العقل قرين العلم؛ ولذلك تكررت مادة العقل ما يقرب من خمسين مرة في كتاب الله الحكيم؛ مثل: «أفلا تعقلون. لعلكم تعقلون. إن كنتم تعقلون. أفلم تكونوا تعقلون؟ وما يعقلها إلا العالمون. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون».. الخ».
ولأهمية سلامة اللغة، وأثر ذلك في فهم الإنسان، وتأمين فكره، وهدايته للطريق المستقيم، سمى الرسول، صلى الله عليه وسلم، الخطأ واللحن في العربية ضلالاً؛ فقد قال، وقد سمع رجلاً يلحن في كلامه: «أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل» (الخصائص لابن جني 2/8). وفي رواية قال: «أرشدوا أخاكم»؛ (عن أبي الدرداء؛ كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي ص2809) وفي هذا الصدد قال مازن المبارك: «وتسمية اللحن بالضلال بلاغة لا تصدر إلا عن بليغ؛ لأنها تسمية الشيء بما يؤدي إليه، وكم ضلّ أناس في الفهم لضلالهم في اللغة؛ سواء كان ذلك في دلالات الألفاظ أو أساليب التعبير أو حركات الإعراب، وما أظن ابن جني ومن تقيّله إلا مقتبسين من هذا الحديث النبوي، حين قالوا ما قالوه من أن ضلال بعض الفرق راجع إلى ضلالهم في فهم اللغة..»؛ (مجلة كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، العدد الثالث عشر 1417هـ 1996م، ص33). حقاً إن العربية تثري العقل، والعقل ينظم المعرفة، والمعرفة ترشّد السلوك. وللحديث صلة.