د. حمزة السالم
التصورات الاقتصادية عند كثير في العالم الثالث مشوشة جداً، ويرجع ذلك إلى أسباب دينية وتاريخية. فالنظام الاقتصادي الموصوف في الأديان، لم يعد له وجود تقريباً في هذه الحقبة التي نعيش فيها اليوم. وأما تاريخياً، فقد عاش العالم في القرن الماضي حرباً أيديولوجية اقتصادية بين الشرق والغرب. فهي وإن خمدت نارها، إلا أن رماد حطامها الفكري ما زال باقياً يغشى العيون. ففشل الاشتراكية المروع، مع دخول تعديلات كثيرة على الرأسمالية، ترك فراغاً تنظيرياً لمفاهيم الأسواق والإنتاج، تلقفته بقايا الاشتراكية وبعض العرب والعجم من الأمم المتخلفة اقتصادياً، فأخذوا يجترونه، فيسلون أنفسهم عن فشل أممهم في اللحاق بالركب الاقتصادي الحديث.
والاقتصاد الحديث ابن الغرب. والغرب قد تجاوز معظمه الاشتراكية والإقطاعية، فما عاد مفكروه يكترثون لتفنيد الاشتراكية أو الإقطاعية أو حتى توضيح مفهوم الرأسمالية الحديث، فأهملوا التنظيرات القديمة في انطلاقتهم وراء تطوير النماذج الرياضية والإحصائية. وهذا في الواقع، قد سبب غلبة التخصصات الدقيقة على علوم الاقتصاديين؛ مما أحدث ضياعاً لفهم المفاهيم الاقتصادية الأساسية التنظيرية عند النخب الاقتصادية، فضلاً عن عامة الناس.
ومشاكل الاقتصاد الكبرى المستعصية، غالباً ما تكون متشابكة في أصولها وفروعها. والفهم العميق لهذه المشاكل، لا يمكن تحقيقه ما لم تُفهم ، هذه المفاهيم من الوسط الاقتصادي المتخصص، ومن عموم الناس كذلك. فأصعب الفهم، فهم عقل قد سبق إليه تصور سابق مخالف. والفكر الإبداعي والاختراعات وإن كانت تُنسب لشخص واحد، إلا أنها في الواقع نتيجة لأفكار المجتمع من حوله. فاستطاع هذا المفكر أو المخترع الربط بينها، ثم وجد لها سوقاً عند طرحها، وكذلك هو الاقتصاد وعلومه وتطبيقاته. ومثل أثر غياب فهم الاقتصاد داخل أوساط السوق، كمثل أثر غياب العلماء: يُنتج عن بقاء الكل في الجهل. (والسوق هنا، هو جمهور الناس).
لذا فمحاولة فتح البحث والتأمل والتنظير والتبيين للمفاهيم الاقتصادية القائمة اليوم، ورفع الخلط بينها، مهم جداً في تصور الاقتصاد والتنبؤ به، وبالتالي اتخاذ القرارات والسياسات الاقتصادية الأمثل. كما أنه مهم جداً لفهم تشريعات الأديان وفلسفة سياسات الحكم والمجتمعات الإنسانية، وفي تطوير العلم من بعد ذلك.
وفهم هذه المفاهيم الاقتصادية فهماً صحيحاً وعميقاً، وإدراك ما طرأ عليها من تغيرات وتعديلات عبر العصور والأمكنة، يساعدنا على فهم التاريخ الاقتصادي وتفسير ظواهره، كما يمكننا على اختبار دقة المعلومات التاريخية، مما يزودنا بأساسيات العقلية الاقتصادية المتفوقة التي تمكنها من إدارة ملفات الاقتصاد في بلادها ومجتمعاتها، على ما يناسبها لا ما ناسب غيرها من الأمم، وبذلك يتحقق لها الاستغلال الأمثل لمواردها المتاحة لها، كما تمكنها من التخطيط الصحيح لتطوير أسواقها والرقي بإنتاجيتها كمًّا ونوعاً.