د. زايد الحارثي
لقد جاءت وثيقة مكة التي صدرت عن رابطة العالم الإسلامي في الرابع والعشرين من رمضان المبارك لعام أربعين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية، محتوية على الكثير من المبادئ والأفكار المستنبطة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتي تصلح هدياً للبشرية وسداً لفراغ كبير من المبادئ والأطر الفكرية الضرورية التي يحتاج إليها عالم اليوم والإنسانية عموماً للاهتداء بها في التعاملات والسلوك الحياتي فيما بينهم وفي أنفسهم كمعايير للاحتكام بها في تمييز الحق من الباطل والصحيح من الخطأ، وتعتبر فئة الشباب من أهم الفئات استفادة من معطيات هذه الوثيقة.
إن هذه الوثيقة ليست عبارة عن اجتهادات لأفكار جديدة أو مقترحات حديثة أتت استجابة لمقتضيات واقع الحال من الصراعات أو المصادمات الفكرية والدينية والعقدية، بل هي في الواقع وكما قرأتها بتمعن من خبراء ونخب فكرية ودينية لديهم القدرة والكفاءة والممارسة التي جعلتهم يجمعون علي أهم المبادئ والأحكام الفكرية الإسلامية التي تفسر حقيقة مفهوم الإسلام لقضايا العصر الشمولية مثل التعامل والعلاقات مع المختلف ومع المناظر والمشابه وفي الظروف كافة وعبر الأوقات والأمكنة، وعلى سبيل المثال، انظر مثلاً المبادئ الثلاثة الأولى والتي تعتمد أساساً على أصل الدين ومصدره الأساس وهو القرآن الكريم، البشر على اختلاف مكوناتهم ينتمون إلى أصل واحد وهم متساوون في إنسانيتهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. النساء ويشملهم جميعاً التكريم الإلهي، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء.
رفض العبارات والشعارات العنصرية والتنديد بدعاوى الاستعلاء البغيضة التي تزينها أوهام التفضيل المصطنعة، فأكرم الناس أتقاهم لله، يقول تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13) سورة الحجرات.
كما أن خيارهم أنفعهم للناس، وفي الحديث الشريف (خير الناس أنفعهم للناس) معجم الطبراني، الاختلاف بين الأمم في معتقداتهم وثقافاتهم وطبائعهم وطرائق تفكيرهم قدر إلهي قضت به حكمة الله البالغة، والإقرار بهذه السنة الكونية والتعامل معها بمنطق العقل والحكمة بما يوصل إلى الوئام والسلام الإنساني خير من مكابرتها ومصادمتها، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (119) سورة هود.
وعلى كل من هدي إلى الحق بيانه للناس وتلك الاستشهادات والاقتباسات من المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي إنما هي أمثلة فقط لوضوح الإطار والموجه الصحيح للتعامل البشري والتقييم للبشر بل وهي وما تبعها من أطر ومبادئ مكملة تنبني عليها الأفكار والمعتقدات الروحية والدينية الوسطية، بل أصبح من الضروري اليوم في ضوء ما ورد في الوثيقة من مبادئ إن تقام مؤتمرات وندوات عالمية لرسم ووضع الخطط والسياسات والبرامج المترجمة لمبادئ هذه الوثيقة في مناهج التعليم ومناهج الدعوة وعبر الوسائل الإعلامية المختلفة لتجنيب البشرية الاجتهادات المبتسرة والمتحيزة لتعاليم ومبادئ الأديان في ظل فراغ التفسير الصحيح لتعاليم الدين ومحدداته وموجهاته وأساسياته ومحاكاته لمتطلبات العصر وتحدياته وفي اعتقادي إن ما جاءت به الوثيقة وما يكملها وما يتبعها من تطبيقات تربوية واجتماعية ودينية شاملة سوف يسهم في تجنيب الكثير من الأفكار المتطرفة والمنحرفة التي أدت وتودي إلى خطابات العنف والإرهاب والكراهية ومن ثم إلى السلوك والفعل الإرهابي، وأخيراً لا بد من توجيه الشكر إلى رابطة العالم الإسلامي بقيادة مهندسها العالم الدكتور محمد العيسى على المبادرة بإخراج هذه الوثيقة المهمة، نفع الله بها البشرية. وبالله التوفيق.