د.عبد الرحمن الحبيب
الولايات المتحدة والصين وشركاتهما تحتكر معظم بيانات العالم، وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يشهد العالم قريبًا نوعًا جديدًا من الاستعمار.. إنه استعمار البيانات، يتم فيه استخراج المعلومات الخام من كافة بلدان العالم، وتتم معالجتها في المحور الإمبراطوري، ثم استخدامها لممارسة السيطرة على جميع أنحاء العالم.
هذا ما كتبه المؤرخ يوفال هراري مؤلف كتاب «21 درسًا للقرن الحادي والعشرين»، ذاكراً أن سباق تطوير الذكاء الاصطناعي يكتسب زخماً مع اندفاع المنافسة بين أمريكا والصين، فيما تتخلف البلدان الأخرى عن الركب، خاصة بالعالم النامي الذين إذا لم يلتحقوا فستكون آفاقهم قاتمة. جميع البلدان، سواء المتقدمة أو المتأخرة تكنولوجياً، ستتأثر بهذه المنافسة الشرسة، لكن هناك تحدٍ إضافي للذين تخلفوا بالسباق، ستكون التداعيات الاقتصادية جسيمة فهناك طلب أقل بكثير على العمالة غير الماهرة التي عادة ما يقدمونها (فورين بولسي).
بيد أن ثمة مخاطر أخرى، سياسية وبيولوجية مرعبة. من الناحية السياسية يتيح الذكاء الاصطناعي إمكانية اختراق البيانات لجميع الأفراد، واستخدامها لفك رموز رغباتهم والتنبؤ بها والتعامل معها. من أجل ذلك، تحتاج الحكومات والشركات للوصول لكميات هائلة من المعلومات حول السلوك البشري الواقعي، مما يجعل البيانات أهم مورد بالعالم. مثلاً، كشفت تقارير أن كمبريدج أناليتيكا قد فعلت ذلك مع بيانات فيسبوك للناخبين الأمريكيين. ومثال آخر، يمكن لعمالقة البيانات بأمريكا والصين تجميع التاريخ الطبي والشخصي للسياسيين والمسؤولين بكافة البلدان واستخدامها للتأثير عليهم أو التلاعب بالرأي العام بشأنهم (وينتر بولسي).
من الناحية البيولوجية، يتوقّع علماء الهندسة الوراثية أن التقنيات الأحيائية الجديدة بإمكانها مستقبلاً عمل تحسينات وراثية «تنتج» أطفالاً أكثر صحة وذكاء ومقاومةً للأمراض، قد تصل لإنتاج بشر خارقين. ورغم أن المحاذير الأخلاقية تمنع ذلك، إلا أنه إذا تم تجاوزها، فيمكن لأولئك الذين يسيطرون على الذكاء الاصطناعي صياغة مستقبل الحياة البشرية بيولوجياً.
يقول هراري: «سيكون الجمع بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا البيولوجية حاسما لأي محاولات مستقبلية لإعادة تصميم الأجسام والأدمغة. يمكن للنخب في الولايات المتحدة والصين الذين يستطيعون الوصول لهذه التقنيات أن يحددوا مسار التطور للجميع، وفقًا لقيمهم ومصالحهم الخاصة، وتحسين القدرات التي يرونها مفيدة، مثل الانضباط والذكاء، على حساب صفات يعتقدون أنها غير ضرورية، مثل الروحانية».
من سيفوز بهذا السباق؟ في اجتماع قمة الذكاء الاصطناعي قبل سنتين، قال إريك شميدت، الرئيس السابق لشركة جوجل، عن الصينيين: «بحلول عام 2020 سيلحقون بنا، وبحلول عام 2025 سيكونون أفضل منا، وبحلول عام 2030 سيسيطرون على صناعات الذكاء الاصطناعي» قد يكون ذلك مجرد تحذير، لكن ماذا ستفعل الدول الأخرى إزاء هذا التنافس «الإمبراطوري» بين أمريكا والصين.. يجيب هراراي: إما الانضمام أو التنظيم.
بالنسبة للانضمام بالسباق يصعب على الدول إنتاج شركات أمثال جوجل وأمازون وهواوي وعلي بابا، بمفردها، إلا إذا بذلت جهوداً مشتركة كالاتحاد الأوربي. بالنسبة للتنظيم يمكن للبلدان المتأخرة في الذكاء الاصطناعي تغيير تركيز تطوير الذكاء الاصطناعي من مراقبة الأفراد إلى عكسه: أي مراقبة الأفراد للشركات والحكومات.. ويمكنهم محاولة تنظيم السباق عبر التشريعات، بوضع قوانين صارمة حول أخطر التقنيات الناشئة، مثل أنظمة الأسلحة ذاتية التحكم والعقول المصطنعة وتعديل الأدمغة البشرية.
كما يمكن وضع تشريعات تشابه تماماً ما تفعله الدول بحماية مواردها الخام الطبيعية كالنفط والحديد، حيث يتعين على شركات التعدين الدولية الدفع مقابل ما تقوم به من حفر، والشيء نفسه يجب أن تُطالب به شركات التكنولوجيا التي تجمع البيانات من كافة الدول ومعالجتها بمراكز الذكاء الاصطناعي التي تجني فوائدها.
من غير المؤكد أن الدول الأضعف في العالم يمكن أن تتجنب كونها مستعمَرة للبيانات. لكن عليهم المحاولة، أما إذا دفنوا رؤوسهم في الأرض، وركزوا على مشاكلهم المباشرة، وتجاهلوا سباق الذكاء الاصطناعي، فسيتم تقرير مصيرهم في غيابهم، حسب هراري.
لكن ماذا عن صدام «الإمبراطوريتن»: أمريكا والصين..؟ في يونيو 2005، نشر الباحث بمركز الأمن الأمريكي روبرت كابلان (مؤلف كتاب عن الحرب والإستراتيجية للقرن 21) مقالاً عنوانه على غلاف مجلة اتلانتيك: «كيف سنحارب الصين» ذاكراً أن المنافسة العسكرية الأمريكية- الصينية ستحدد شكل القرن الحادي والعشرين؛ وستكون الصين خصماً أصعب كثيراً من روسيا.. وقبل أسابيع كتب كابلان بمجلة فورين بوليسي: لقد وصل ذلك المستقبل! إنها حرب باردة جديدة.. فاختراق الحاسوب الصيني المستمر لسجلات السفن الحربية الأمريكية وسجلات أفراد البنتاغون وما إلى ذلك تشكل الحرب بوسائل أخرى.. جازماً بأن هذه الحالة السيئة ستتفاقم..
التطور التكنولوجي يشجع هذا النزاع بدلاً من تخفيفه، إذ يمكن لكلا الطرفين التدخل في الشبكات التجارية والعسكرية والاجتماعية للطرف الآخر.. فلم يعد المحيط الهادي حاجزاً شاسعاً كالسابق.. فبضغطة زر على الكمبيوتر يمكن أن تبدأ الحرب.. ولم تعد كالحرب الباردة القديمة حين كان الردع متبادلاً خشية القنابل النووية المدمرة للجميع؛ ففي هذا العصر الجديد من الأسلحة الموجهة بدقة والهجمات الإلكترونية الضخمة المحتملة، اتسع نطاق الحرب غير النووية بشكل كبير. إنها مقدمات لحرب باردة شاملة من نوع جديد أحدثها العصر الرقمي بانهيار المسافة الجغرافية..