د.عبدالله بن موسى الطاير
من واشنطن أكتب هذه المقالة في وقت تتجه العيون والآذان إليها فيما عساها فاعلة تجاه إيران بعد إسقاط طائرتها المسيرة بدون طيار. وفي عاصمة القرار العالمي، ليس لعامة الناس اهتمام بما يهمنا ويقلق راحتنا، فضرب إيران يقع على بعد آلاف الأميال ولذلك فإنهم غير معنيين به قبل أن يؤثر في مجريات حياتهم اليومية.
المراقبون القريبون من مجريات الأمور تنتابهم الحيرة في فهم رسائل الرئيس بدءًا من التصريح بأن مستشار الأمن القومي جون بولتن يوسوس له طيلة الوقت بضرب إيران، وأنه، أي الرئيس يعمل على ترشيد اندفاع مستشاريه، وانتهاء بما تم تسريبه إلى صحيفة نيويورك تايمز من أنه أعطى الأمر بتوجيه ضربة خاطفة لإيران ثم أوقفها قبل التنفيذ، فمن جانب يقرأون الواقعتين على أنهما رسالة لإيران أن هلموا إلى الحوار والتفاوض مع إدارتي، ومن جانب آخر على أنهما رغبة حقيقية من الرئيس في عدم خوض حرب في هذا التوقيت رغم إلحاح بعض مستشاريه.
أي كان السبب فقد تولدت قناعة بأن إيران مستميتة في سعيها للحرب لأنها فرصة النجاة الوحيدة على مستوى توحيد الجبهة الداخلية، وترغب في فرضها على المشهد، ومن الحكمة ألا تحدد إيران توقيت الحرب مع أمريكا. التردد الأمريكي يزعج دعاة الحرب في المنطقة من مستشارين وإعلاميين ونشطاء على شبكات التواصل الاجتماعي، فهم يتوقون لرؤية أمريكا تشن حربًا على إيران وكأن الحرب نزهة، وكأنهم في مأمن من شظاياها. أمريكا تقرر الرد، ومتى يكون وكيف يكون وفقًا لمصالحها وليس بناء على أمنيات غيرها، هكذا رد أحد المستشارين العسكريين أثناء أحد اللقاءات في ضواحي واشنطن.
نقلت لأحد المقربين من دائرة الرئيس تشكك الشارع العربي عامة والخليجي خاصة في نوايا أمريكا تجاه إيران، وما يتردد عن علاقتها الاستراتيجية بها، وأن ما يجري هو مجرد ذر للرماد في العيون. رد على سؤالي بسؤال عما إذا كنت أشاركهم الرأي ذاته، ولكنه لم ينتظر إجابتي ليؤكد أن امتلاك إيران سلاحًا نوويًا هو خط أحمر لإدارة ترمب وللمشرعين جمهوريين وديمقراطيين. وأن طبيعة العقوبات وقسوتها كفيلة بإسقاط ولاية الفقيه.
ما فهمته أن هناك من يخطط في دوائر صناعة القرار في أمريكا لما هو أبعد من إيران، وأن للولايات المتحدة الأمريكية مصالح حيوية تضطرها لاتخاذ قرارات مصيرية وجريئة في المنطقة. وكان المثال المطروح أن أمريكا تداركت أوروبا الضعيفة بعد الحرب العالمية الثانية لتعيد تعمير ألمانيا والدول المتضررة، وتسند أوروبا حتى استوت على سوقها، وأصبحت قوية شبه موحدة، ولعبت ألمانيا ومن خلفها القارة الأوروبية الغربية بمنزلة رأس الحربة في وجه الاتحاد السوفيتي الذي كان المهدد الأوحد لأوروبا وأمريكا.
تلك الدائرة التي صنعتها أمريكا لمواجهة الخطر الرئيس حينئذ أصبحت الآن قوية، وتم دحر الاتحاد السوفيتي، ولم تعد أمريكا تخشى تهديدًا يستغل ضعف أوروبا وتفككها. فانتقلت إلى دائرة أخرى وهي الشرق الأوسط مع صعود نجم الصين، وتغلغل روسيا في المنطقة وكسبها سمعة إيجابية في وقوفها مع حلفائها. هذه الدائرة التي ستصنع في الشرق الأوسط تعاني من أعراض ولادة متعسرة، وقد تتواصل عملية الطلق فترة ليست قصيرة، ولكن في نهاية المطاف ستصنع أمريكا خط دفاع متقدم يمثل مصدًا قبل وصول الخطر للدائرة الأولى في منظومة الدفاع الأمريكية وهي أوروبا.
هذه التأويلات أو الأمنيات لا يمكن تنزيلها على الواقع كما يريدها المتفائلون في واشنطن، ولا يمكن أيضًا استبعاد حدوثها. إلا أن تحققها سوف يعني بدون شك وجود إيران قوية بدون ولاية الفقيه، تعود لبيت الطاعة الأمريكي، وسيعني حلولاً جذرية للقضية الفلسطينية، ولمتلازمة استهداف السنة العرب، ولا استبعد ما سبق وكتبته منذ سنوات من نشوء دول جديدة في المنطقة قائمة على المذهب أو العرق.
الوقائع ومجريات الأمور تؤكد أن المنطقة ما زالت تعيش إرهاصات الفوضى الخلاقة، وأن التعامل مع إيران يجري ضمن منظومة خيارات وبدائل تتمتع بمرونة تهدف إلى تحقيق المقاصد مهما تباينت الوسائل.