د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يتخرج الطبيب في أمريكا أو كندا فيستمر سنوات يسدد مصاريف دراسته التي تكلف ما يقارب 60 ألف دولار سنوياً، لذا تكلفة الرعاية الطبية الخاصة في أمريكا وكندا مرتفعة. لدينا الطبيب يدرس بدون مقابل، ويتخصص ببعثة حكومية تكفل له العمل والمصاريف. بعضهم، فور عودته، يتهرب من المستشفى الحكومي، ويفتح عيادة خاصة يحول لها مرضاه، ويضع سعرًا للعلاج يقارب تكلفة العلاج لدى قرينه الأمريكي أو الكندي، ويطالب أن يقارَن وضعه بوضع بالطبيب في أمريكا أو كندا. باختصار، يريد تعليما سعوديا مجانيا وممارسة أمريكية مرتفعة الدخل.
وفرت الدولة الدراسة بالمجان للأطباء وهدفها الأول ليس رفاهية الطبيب فقط، بل توفير رعاية صحية لائقة ومعقولة للمواطن، المواطن، مهما كان دخله، وليس فقط الغني القادر على دفع تكاليف العلاج المبالغ فيها التي يطالب بها بعض الأطباء. كما وهناك للأسف فئة من المواطن لا تفكر في تكلفة العلاج ولا تسأل عنه لأنه لا يهمها، ولا تفكر في المواطن متوسط أو محدود الدخل. طبيبنا الذي يقارن نفسه بقرينه الأمريكي يريد أن يخدم هذه الفئة فقط، فالمريض في أمريكا يموت في الإسعاف دونما علاج إذا لم يكن معه «كردت كارد» يغطي علاجه.
مجال الطب هو المجال الوحيد الذي تدرس فيه مادة تسمى أخلاق المهنة، وهناك أطباء كثر يعون هذه الأخلاق، ولكن البعض منهم لا يفرق بين أخلاقيات الطب وأخلاقيات البزنس، فحوَّل الطب من مهمة إنسانية إلى مهنة ربحية تعتني فقط بمن يدفع أكثر. وزاد من طمع بعض الأطباء انتشار سياسات التأمين بسبب قوانين العمل، ولدينا صراع خفي بين شركات التأمين والمراكز الطبية، يشبه صراع توم وجيري. فقد تذهب لمركز طبي ويقول لك لا نقبل هذا التأمين أو ذاك، لماذا؟ لأن الشركة لديها مختصون في الطب يراجعون تكلفة العلاج، ويقدرونها. الأفضل هو التأمين الذي يدفع ساكت.
لذا ليس مفاجأة أن المواطن العادي لا يستطيع شراء تأمين بسبب ارتفاع قيمته. فبجانب كل مركز طبي صيدلية تابعة له، والطبيب حتى ولو مقيم، ملزم أن يدخل للمركز دخلاً معينًا ليس من المراجعات الطبية فقط بل ومن الصيدلية. فتكرار المواعيد وصرف أدوية بلا حاجة حقيقية تحول لممارسة معتادة في كثير من المراكز والمستشفيات الخاصة، كبيرها وصغيرها.
أما طب الأسنان فهو حكاية أخرى، لأن ألم الأسنان مبرح، ولا يمكن تحمله. فعلاج عصب الأسنان مثلاً يكلف في بعض المراكز 3500 ريال، أي أعلى من الراتب الشهري لموظفي الاستقبال في العيادة ذاتها، وإذا احتاج السن إلى تلبيسة أو تاج، تاج من البورسلان يعده عادة وافد يستلم راتب معقول أيضاً، فهذا يتجاوز الخمسة آلاف وقد يصل لثمانية آلاف. أما زراعة الأسنان فتتكلم عن 10 آلاف فأكثر. أي أن المواطن العادي يحتاج لقرض لعلاج سن من أسنانه. والتأمين بالطبع لا يغطي هذه التكاليف رغم أنها جزء من العلاج بسبب ارتفاع كلفتها. ويقال إن من أراد أسناناً للابتسام عليه أن يدفع إلى حد البكاء، وربما أكثر من ذلك. ورغم كل ذلك يبقى تسعير الخدمات الطبية حبله على غاربه بل إن هناك تحايلا مستمرا على الخدمات الطبية العامة لتحويلها لخاصة، بتحويلها لمراكز أعمال، أو خدمات شبه مستقلة بحجة زيادة كفاءتها!!
أخطاء طبية بدائية، ممارسات خاطئة، تداخل مخيف في التخصصات، تلاعب بالتأمين الخ.. ولكن ما من مجيب! كثرة الشكاوى لم توقف هذه الممارسات بل هي في استفحال مخيف. إجراءات التقاضي الطويلة والتعويضات البائسة دفعت الكثير من المتضررين للتنازل عن حقوقهم. مواطنات مسكينات أجريت عليهم عمليات تجميل خاطئة فتشوهن للأبد؛ عمليات معدة أدت بأصحابها للوفاة؛ وأخرى للشلل وهلم جرا.
الفوضى التي تسود قطاعنا الطبي الخاص لها مصدر واحد أساس وهو الركض خلف المال. وبالطبع لا نية لوزارة الصحة أو هيئاتنا الطبية كبح هذا الجماح بوضع تسعيرات معقولة ملزمة للخدمات الطبية.
يتساءل كثير من المواطنين : هل كان فتح المجال الخاص في الطب نعمة أم نقمة على المواطن؟ ولنعرف الإجابة عن ذلك عليك مراجعة المستشفيات الخاصة والنظر في طوابير المرضى والمراجعين. وللأسف فإن كثيرا من المواطنين وضعوا أمام خيارين : إما صرف كل ما ادخروه على العلاج وبشكل غير مضمون أيضاً، أو التعايش مع المرض لمدد طويلة في طوابير المستشفيات الحكومية.
الطبيب لا يمكن أن تسأله أو تسائله، فهو لا يحدد إنسانية مهنته فقط بل ويحدد إنسانيتك أيضاً.