أ.د.عثمان بن صالح العامر
أحياناً يُذكر عندك حدث، أو يمر بك موقف، أو يُثار في وجودك نقاش وجدل، أو تسمع حكاية لصديق، أو تُروى لك واقعة جديدة أو... تجعلك لا شعورياً تسترجع التاريخ، وتستعرض المواقف التي تختزنها في ذاكرتك فتربط وتقارن وتستنتج.
تذكر كتب السير أن امرأة من الأنصار دخلت على عائشة رضي الله عنهما في حادثة الإفك وبكت معها دون أن تنطق بكلمة، قالت عائشة: لا أنساها لها).
في حادثة الإفك هذه التي جزماً لا تخفى تفاصيلها على القارئ الكريم، خاصة وأن الله عزَّ وجلَّ جعلها قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة كما في سورة النور، ومن خلال هذا الموقف الذي كان محل إعزاز من عائشة رضي الله عنها لهذه المرأة التي لا تعرف اسمه ولا حتى رسمه يمكن القول:
- إن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الذي صارت فيه زوجه العفيفة الشريفة محل تهمة، يجمع بين الشخصي والوظيفي فهو وإن كان زوجاً لعائشة رضي الله عنهما ويعرفها جيداً ويستحيل أن يصدق ما قيل فيها إلا أن وظيفته باعتباره إمام المسلمين، الحاكم السياسي لهذه الدولة الإسلامية الناشئة، تفرض عليه أن يتعامل مع القضية التي أمامه بكل حياد، ويأخذ ما قيل بعيداً عن العاطفة الشخصية حتى يثبت بالدليل والبرهان القاطع براءتها، فالغالبية في مجتمع الإسلام يتحدث بما تفوّه به ابن سلول رأس المنافقين (والله ما نجا منها ولا نجت منه)، ولذلك ما إن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قيل، وعرف ما كان من ابن سلول حتى اعتزل زوجه رضي الله عنها، وتسأله رضي الله عنها عن سبب ذلك؟ فيقول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام (يا عائشة إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفر الله وتوبي إليه).
- إن الإنسان مهما كان قوياً في ذاته، واثقاً من نفسه إلا أنه غالباً ما ينهزم أمام مثل هذه المواقف التي يشعر فيها أنه عجز عن الانتصار للحق الذي يحمله ويعتقده ويدين الله به، فهو يجمع بين القهر الذي استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم منه وبين الإقصاء الذي نزل عليه جراء ما قيل.
- إن أصحاب القلوب النبيلة والنفوس الحيَّة يستشعرون ما يعانيه أمثال هؤلاء في مثل هذه الحال، فتكون منهم المواساة وتضميد الجراح ولو بالكلمة أو الدمعة التي معهما يحس هذا المكلوم بأن هناك من بقي لديه بقية ثقة بشخصه وبراءته مما نُسب له ظلماً وزوراً، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنه، (لا أنساها لها) وهي صامته، لم تتفوّه بشيء، ولكنه الموقف، ولذلك كان جبر الخواطر عبادة عظيمة يستحق صاحبها الشكر العميق والدعاء الصادق بأن يجبر الله خاطره حين تنكسر الخواطر يوم التغابن. دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام