د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ليس استنساخًا تواطؤُ الجماهير على فكرةٍ معينة تمتد بامتدادِ فضاءاتهم المكانية والذهنية؛ فيقتنعون بها ويدافعون عنها ويعُدونها ممتلكًا ثقافيًا لا يصح التفريطُ به، وقد يتنمَّرون أمام من يحاول المساس بها دون الاتكاء على معلومة موثقة أو على نظرية تحت الاختبار، وقد يكون استسهالاً أن يصبحَ العامةُ أدلَّاء الركب والمركب؛ فالاسترخاء الثقافي لدى النخب بلغ حدًا جعل أساليبهم وأفكارهم ومرجعياتهم نمطيةً مستهلكة.
** لا جديد هنا سوى استعادة نظرية «الميمات» أو «الميميات» Memetics كما رسمها ريتشارد سايمون عام 1904م وتبعه ريتشارد دوكينز- وهو عالمُ أحياء- حين أصدر عام 1976م كتابه: «الجينة الأنانية»
The Selfish GENE؛ فالميمة في تعريفه هي الوحدة الفكرية الأضأل، وتأثيرها على العقول كتأثير الجينات الوراثية، بل إنها (أي الميمات) العاملُ الأبرز في تناقل الأفكار واستنساخها وقوتها وضعفها وانتشارها واندثارها، وثقافة كل بيئة مختزنة في «ميميات» أفراده.
** كُتبت بحوث عديدة في هذه النظرية؛ فسُلِّم لها وأُعرض عنها، ولعل تعريفها بأنها: «أيُّ شيءٍ يمكن نسخه من عقل إلى آخر» يفسر ظاهرة تأجير العقول أو استئجارها لكونها بضاعة رائجة حتى باتت الملامح متشابهة والكتابات متقاربة والقراءاتُ التحليلية متماثلة؛ فكذا تصنع الميمات، وكذا يتكاثر الميميُّون.
** ولأن الجينات الذهنية «الميميات» جليةُ التأثير في الوسط الرياضي والفني والاجتماعي الذي يكتفي بتداول فكرةٍ فيعتنقها محبو نادٍ أو فنانٍ أو توجهٍ، فربما ظن بعضنا براءة الوسط الثقافي منها لاستقلالية مفرداته ومتانة تكوينهم غير أنه محكومٌ بها محتكمٌ إليها بصورة لا تفترق عن سواه؛ فالمعلومة تُتداول داخله دون تدقيق أو توثيق؛ سواءٌ أكانت تراثية أم آنيةً، وأكاذيبُ التأريخ كما أغاليط المُحْدثين تنتشر بالترديد، وحين تجد من يحاول تعديلها أو تعليلها فإن قوة تأثير الأذهان المستنسخة بهذه الجينات تقف سدًا أمام الخروج من إغلاقها وإملاقها.
** ولعل الوسوم «أو ما يعرف بالهاش تاق» مثالٌ مهم على ما تصنعه جينات العقول التابعة لتجتذب التصديق والتصفيق الجمعيين بمتابعة «قطيعية» تثبت دور الميميات في توجيه الأذهان نحو الاتجاه المُراد دون مقاومةٍ قادرةٍ على إثارة التفكير العملي الناقد، والأمر ليس خاصًا بفئام؛ فالمجتمع الآخر مرتهنٌ بعضه لعقيدة ادعاء صلب المسيح عليه السلام، وبعضُه لقراءة مبتورة لاستشهاد سيدنا الحسين -رضي الله عنه-، وبعضه لحكاية «الهولوكوست»، ومعظمنا للتخويف المبالغ بشأن «جاهليةٍ» مرَّت وأخرى قد تمُر، والمذاهب والطوائف والإثنيات والقبليات خطىً «ميمية» منزوعة التفكير والتقرير.
** والاستفهام هنا: ما الذي يصنعه المُشرِّع الثقافي والتربوي والإعلامي لتنمية التفكير لدى النشء كي ينقذهم من وصاية الميميات وتناسخها؟.. وأين برامج تعليم التفكير عن شبابنا؟.. وهل نطمح إلى لغةٍ لا تتكرر كلماتها وفواصلها بين قوافل التدوير لتشرق بالجديد والتجديد عبر منصات التطوير؟!.
** التبعيةُ غيبوبة.