فيصل خالد الخديدي
ضمن تجربة نظمتها واشنطن بوست كدراسة اجتماعية حول التصور وأولويات البشر, في إحدى محطات المترو الأكثر ازدحاماً بواشنطن، وفي وقت الذروة، قدم عازف كمان ست مقطوعات لباخ خلال 45 دقيقة، مر بالمحطة 1100 شخص، ولم يتوقف ويبقى لمدة من الوقت سوى 6 أشخاص، و20 شخصاً فقط قدموا له المال ولم يبقوا بل واصلوا السير بشكل طبيعي, وحصل العازف خلال هذا الوقت 32 دولاراً فقط، وانتهى من عزفه ولم يلاحظ أحد توقفه ولم يتلق ولا صفقة واحدة إعجاباً ولا تشجيعياً، مع أن العازف هو جوشوا بيل، من الموسيقيين الموهوبين البارزين في العالم، وقدم في عزفه بمحطة المترو مجموعة من المقطوعات الموسيقية الأكثر تعقيداً، وقيمة الكمان الذي عزف عليه 3.5 مليون دولار. وكان قبل يومين من عزفه في مترو الإنفاق، قدم حفلة موسيقية في أحد مسارح بوسطن بيعت بطاقة الدخول بمتوسط 100 دولار، وتركت هذه التجربة عدة تساؤلات لعل أبرزها: هل ندرك الجمال في جو غير مناسب وفي ساعة غير مناسبة وفي مكان غير مكانه؟
إن تقديم الإبداع في غير محيطه لا يوفيه حقه من التقدير وربما يجعله عرضة للامتهان ووضع الجمال في غير موضعه ربما يجعل نصيبه التهميش وقلة التقدير، وهذه التجربة أوضحت كيف أن الموهبة والقدرة الفنية العالية والأدوات الباهظة الثمن وجودة المخرج عندما قدمت في غير محيطها لم تثير الاهتمام المستحق ولم تحقق النجاح الذي حققته عندما قدمت في المكان الصحيح لها، وهو ما ينسحب أثره على ما يقدم من العديد من التشكيلين الذي استسهلوا ظهورهم في مهرجانات التسوق وبين كشكات المأكولات السريعة والأسر المنتجة والباعة المتجولين، بل أصبحوا يتسابقون للظهور غير المشرف لهم ولا لفنهم في مناسبات استهلاكية وقتية ينزوي الجمال فيها مهما كان مبهراً، ويضيع الفن بها مهما كان أصيلاً وصادقاً، ومن الظلم تقديم الشيء في غير موضعه، وامتهان الفن لا يبدأ إلا من تقديم التنازلات من أهله، وضرر هذا الامتهان لا يطال الفنان وحده ويتوقف عنده، بل يلقي بأثره على جميع التعاملات مع الساحة التشكيلية وفنانيها.