ميسون أبو بكر
علاقة الإنسان بالأماكن وطيدة منذ القدم، ولعل ما وصلنا من قصائد ووقوف على الأطلال ووصف الأماكن والمدن والقرى يدلل على هذه العلاقة التي غالباً ما تمتزج بالشوق والحنين.
المدينة كائن حي بما فيها من سهل وبحر وجبل وطير وزرع وشجر، حتى جمادها يكاد يكون بينه وبين الإنسان لغة ما وأحاسيس يتبادلها كلاهما بشكل أو بآخر، بل إن بعض شعراء العرب وقفوا على الأطلال وحاكوها وسألوها عن محبوب رحل أو ماض أزهر فولَى، كما لـ طرفة بن العبد قال في قصيدته:
لِخَوْلَةَ أطْلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ
تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيَّهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ويظل الحنين إلى الأماكن سمة بارزة في الشعر والكتابة، كما سمة إنسانية بشكل عام، فكلما ذهبنا لإسبانيا (أقصد نحن العرب) تبدت لنا الأندلس وغرناطة وقصر الحمراء، ولعل في قصيدة نزار قباني للفتاة الاسبانية ما يمثل مشاعرنا خير تمثيل.
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعادي
هل أنت إسبانية ساءلتها
قالت وفي غرناطة ميلادي
غرناطة.. وصحت قرون سبعة
في تلك العينين بعد رقاد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني
لحفيدة سمراء من أحفادي
ورأيت منزلنا القديم وحجرة
كانت بها أمي تمد وسادي
المدن التي نحبها ونعشقها، وقد نحمل فيها من الألم وحنين الغائبين وذكريات الطفولة ما يجعلنا موصولين بها أكثر من مجرد مكان، بل ذاكرة وقلب ينبض كلما مررنا بها أو مر ذكرها، هي المدن التي قد نزورها لاحقا وقد تغيرت ملامحها، فالمتوسط الذي أجلس أمامه اللحظة وأحاكي زرقته يعيدني لكل المارين به، ما قرأت وما بقي في ذاكرتي يهز أغصان الشوق فتتجلى الذكريات تباعاً وكأنها رطب شهي، ولعلني أتأمل في الاهتمام الكبير في أوروبا تحديداً بالمدن أو القرى التي ولد بها شاعر أو عاش بها فنان ما، أو مر بها كاتب أو رمز من رموز الأدب والفن والثقافة، نجد المكان يتحدث عن هذا المبدع، وقد نصب له تمثالا، وأشير لبيته أو متحفه أو الدرب التي مر فيها، المكان الذي يعتز بمكوناته وكائناته، ليصير قبلة سياحية ومورد رزق لسكانه.
أذكر هنا قرية فولتير الصغيرة على مشارف جنيف تبعد 8 كيلومترات عنها، والتي يقصدها الزوار من كل مكان، فلو أدرت عزيزي القارئ مؤشر البحث في جوجل لحصلت على عشرات العروض للفنادق والأماكن التي يمكن أن تزورها في هذه المساحة الصغيرة من المكان الذي سمي على اسم هذا الكاتب والفيلسوف الفرنسي الذي من أهم أقواله «عندما تمسك قلماً.. هذا يعني أنك في حالة حرب»؛ فلو أطلقنا مشروعات سياحية من كل مدينة أو مكان في مملكتنا مر به شاعر أو ولد لتحولت هذه المساحة التي هي بحجم قارة إلى قبلة سياحية بامتياز.
الفن والأدب رسما ملامح المدن ليجعلاها درراً تنبض في مواقعها الجغرافية وعلى خارطة الذاكرة.