أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: للإمام أبي محمد ابن حزم رسالة صغيرة الحجم، ثرية الفائدة بعنوان (التوقيف على شارع النجاة)؛ وأبو محمد إمام في معظم العلوم الأدبية والعلمية والشرعية.. إلخ.. إلخ.. غيره مسألة أو مسألتين أستثني الجهل بها في بعض كتبه؛ وهما من الرياضيات لم يشغل نفسه بهما؛ وكان أبوه الوزير (أحمد) رحمهما الله تعالى من أئمة العلم.
قال أبو عبدالرحمن: كتيب أبي محمد (التوقيف على شارع النجاة) عمل إصلاحي نفيس جداً؛ لأنه خلاصة تبحر علمي، وخلاصة تجربة عريضة لإمام مشارك هو وأبوه في سياسة عصره؛ وكان أبو محمد في عدد من المرات وزيراً؛ وصفة أبي محمد أنه كان معارضاً بالحجة والموعظة والصدع بالحق؛ ولقد فحص واقع عصره فذكر أبناء جيله على تصميم وصبر على الأذى بمواعظ القلوب، وإلزام العقول؛ فكان وعظاً فكرياً علمياً جمع بين مرحمة الإسلام في الوقاية والعلاج معاً؛ فالله جلَّ جلاله الذي أمر الأمة بكفاية ضعيفها الذي لم يقدر على القيام بنفسه: هو الذي عَظَّم شأن الأئمة والجماعة؛ للتلاحم على دفع ظلمة الناس الذين لم تصلحهم الموعظة، ولا سارعوا إلى هداية السلوك بمعرفة الحقائق؛ فكان تحقيق منافع النبوة المطهّرة التي لا صلاح للناس إلا بها: هو مسؤولية الأمة التي يجب أن تنقاد إلى جماعة حق وخير؛ وهي الجماعة التي أحاطت علماً بفقه الدين، وفقه وقائعه تحت رعاية حكومة يدرأ الله بها الشرور، ويحقق بها السعادة؛ لحياطة مصالح الدنيا بحفظ الأموال والأعراض والنفوس والعقول والفروج والأمن وإقامة شعائر الدين؛ لتحصل السعادة والأمن وسعة الرزق وصدق التوكل على الله والشوق إلى لقائه؛ وتلك هي الحياة الطيِّبة المطمئنة التي وَعَدَ الله بها عباده المؤمنين؛ فتقوى القلوب وتتقي، وتشعر بالحرية بأقصى حدودها إلا من العبودية لمن بيده الأمر كله؛ فإن به جلَّ جلاله حياتنا، وإليه معادنا؛ وبغير ذلك تكون العبودية الذليلة والجبن والقلق وشتات الذهن والرزق والبرم بالحياة.. كتب الإمام هذا الكتيِّب رسالة لسائل من أصحابه؛ فأوجز له التوجيه بأن الواعظ نفسه أولاً من طلاب العلم لا يشغل أيام حياته بثقافة هامشية؛ وإن كانت مداخلة تلك الثقافة بتلك الصفة ضرورية غير مستغرقة الوقت من أجل النشاط على الجد: فهذه الهامشية كوصفها؛ فلا ثمة زيادة حاجة إليها؛ بل يكون وكده فيما ينفع نفسه، وينفع أمته بالتزام الأخلاق الفاضلة عن علم وتجربة، ورياضة النفس على التزامها؛ مما لا يستطيع مشاغب أن ينال منها بأي تضليل؛ وذلك الالتزام الفاضل: وجوه من الخير مثل العدل، والكرم بلا خيلاء ولا سرف، والعفة عمَّا هو غير مباح، وعمَّا هو في سعة الفرد: غنى عنه وإن كان مباحاً.. والصدق، والشجاعة في الحق (وعنها تصدر النجدة، ويتميز شرف النفس عن خامل وغد يتكئ على ما يدعيه من شرف النسب.. وحجة الأنساب في هذا العصر أوهىن حجة النحوي)؛ ولو صح شرف النسب، ولم يكن في ثناياه قاطع طريق، أو جبان، أو بخيل، أو عربيد، أو عاهر: فهو عمل وهبي لا كسبي؛ وما نفع بني إسرائيل (بخلاف عموم يهود من أجناس العالم) الفضل الوهبي بالنعم؛ وهم أعرق نسباً؛ وإنما كانت الخيرية لخير أمة أخرجت للناس، وكان فضل الله عليها كسْبياً؛ بأن كانوا قوامين بالقسط يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ وهم في سلوكهم قدوة.. وكان فضل الله عليهم أيضاً بهدايته الشرعية؛ فلما امتثلوها توطّدت عناصر مكارم الأخلاق في جبلتهم بما اقتضاه الله لهم من توظيف الدين بلا تحسير ولا تقصير.. ومن الفضائل الرحمة للبشر والحيوان، والحلم، والرفق، والأناة في معالجة الأمور، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والتواضع من غير ضعة، وخفض الجناح من غير جبن؛ وذلك هو العفو مع القدرة، ومع الاستعلاء على المتغطرس المستكبر.. والمشهور: أن (الكبر على المتكبِّر سُنَّة)، ولا أعلم مأخذ ذلك شرعاً إلا أن يكون من باب ما ورد في الشرع مما يُسمى في البلاغة (مُشَاكَلة)؛ ولا يُدْفعُ ذلك بأن الشرع أوصى بدفع السيئة بالحسنة؛ لأن ذلك على الندب والاستحباب ما لم يستمرئ الطرف الآخر سلوكه العفن ويستمر عليه؛ والمشاكلة على الإباحة؛ ولكن الذي أعرفه بالتجربة (؛ والتجربة برهان): أن المشاكلة في هذا علاج وقتي ناجع؛ لإشعار المستكبر بقيمته الدون، وأنه في متاهة الغرور؛ وليس ذلك استحلاءً للتكبّر، ولا استباحةً له؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى مع بقية هذه المسائل، والله المستعان.