نوف بنت عبدالله الحسين
المحطّة الأولى:
كانت المساحة آمنة جداً، إذا وقعت ستجد من يحملك من جديد، إذا بكيت ستجد من يحتضنك ويسأل عن ألمك، وإذا جعت ستجد من يطعمك، كنت مدلّلاً جدَّا، وطلباتك مجابة قبل أن تنطق بها، كان العالم يتمحور حولك، وكنت مذهلاً جدَّا، لكنك متلهف بأن تنتقل إلى محطّات أخرى، وكنت تظن أن المساحة تحتاج إلى أن تكبر قليلاً، لكنك كنت تتمنى أن تكون بنفس الأمان وبنفس الدلال، فهل خاب ظنّك؟
المحطّة الثانية:
ها أنت بإصرارك أصبحت تعتمد على نفسك كثيراً، ترتدي ملابسك بنفسك، تسرّح شعرك، وتحاول أن تغلق الأزارير الصعبة، أصبحت لك حقيبة مليئة بالكتب والأقلام والدفاتر، وأصبحت جزءاً من العالم، ليس الأمر سهلاً، لكنه حتماَ يستحق التجربة، هذه المحطّة تعدّك لمحطّة غريبة جداً، وأظنك مستعداً لكنك لم تتوقّع أن الأمر سيكون بهذه الحيرة.
المحطّة الثالثة:
عالق أنت داخل جسدك المحصور ما بين طفولة ورشد، تخجل من ألعابك ومن مظهرك ومن صوتك ومن كل شيء يتبدّل داخلك، كيف ستتعامل مع كل هذا؟ وكيف سيفهمون الذي طرأ عليك؟ ستخوض أول معركة بين الأجيال، ستجد اصطفاف الرفاق، وستجد نفسك محتاراً من كل شيء، حتّى ولو لم تظهر هذه الحيرة، لكنك ستجتاز هذا الأمر في المحطة التالية.
المحطة الرابعة:
ها هي المسؤوليات تتوالد في كل مكان، وتتقافز أمامك بكل ثقلها، لابد من الثبات، لابد من التوازن، لابد من الاستمرار في حل كل ما صعب، ستجد كل شيء يحتاج إلى الكثير من الصبر والكثير من استنزاف الطاقة والجهد، ستكون مكينة عطاء، تتعلّم وتعمل وتربّي وتتواصل وتتابع وتقيّم وتزدحم حياتك بالكثير من نجاحات وخسارات، إنها التجربة الأعمق في كل المحطّات.
المحطة الخامسة:
أما آن الأوان إلى الهدوء، فإن طابت اللقمة حينها، يكتشف الجسد أنه في طريق مختلف، وقد تجد الشعر قد كساه لون أبيض، قد تجد في حياتك الكثير من الذكريات، وقد يحزنك فراق الكثير من الأحباب والرفاق، ستحكي لأحفادك رحلتك التي مررت بها، وستلمع في ذهنك محطات عشتها بحلوها ومرّها، ستكون شاهداً على عصر مختلف عن عصرك تحاول فهمه، وقد تشعر بغربة تخفيها عن أعينهم
إن حياتنا تمرّ بالمحطّات، والعمر يمر بسرعة تفوق القطارات، فكيف تستثمر محطّات عمرك في أثر يبقى، وعمل يستمر، وعطاء لا يتوقف، ماذا تركت لجيل قادم، وماذا صنعت لمستقبل مقبل، وكيف تسجل في صفحة عمرك عملاً يدوم ولو بعد حين. لنتأمل العمر وهو يمضي، ماذا فعلنا من خير؟ ماذا قدّمنا من أثر؟ ما هي البصمة التي نريد أن يذكرنا العالم، كيف نجعل من حياتنا محطّات لجسور متينة نمهّد الطريق نحو الخير؟ اطرح هذه الأسئلة على نفسك، وتمهّل في الإجابة.