كانت المرة الأولى التي أتعرّف فيها على اسم جوخة الحارثي هو حينما تداولت وسائل التواصل الإجتماعي خبر فوزها بجائزة المان بوكر التي تُمنح لكتاب كُتب باللغة الإنجليزية أو تمت ترجمته للإنجليزية، وكان كتاب جوخة هو أول كتاب عربي تمت ترجمته يحصد هذه الجائزة.
فكرت كثيرًا قبل أن أشرع بقراءة الرواية كون أي كتاب يحصد جائزة ما هو إلا نتاج ذائقة لجنة مُعينة، وهنا اللجنة التي قررت فوز الكتاب قرأته بالإنجليزية لا بلغته الأم، لكني الآن وبعدما فرغت من قرائتها شعرت بأنني محظوظة كوني عدلت عن حيرتي تاركة لتجربتي مع الرواية القرار فـ التجربة خير برهان.
قبل أن أبدأ بكتابة مراجعتي هذه؛ قرأت كثيرًا عمَّا كُتب حول الرواية والمراجعات العدة المنشورة على الإنترنت، غالبية ما نُشر تصف بأن الرواية رشيقة، وأنا بعد تجربتي لا أجدها رشيقة على الإطلاق، بل متخمة بالتفاصيل الآسرة بدقة لا حدود لسحرها.
أثناء قراءتي لامست مشاعر شخصيات متعددة بأبعاد مختلفة وتباين حاد فيما بينها، وهذا التعدد ساهم في تشكيل هوية المجتمع العماني لدى القارئ، إذ كل شخصية لها امتدادها في شخصية أخرى وجميعها تلتحم معًا في نهاية المطاف.
بين السطور زرت القرية والمدينة، الساحل والصحراء، حفلات الزفاف وساحة الحرب، كنت أصعد وأهبط، حيث يأخذني قلم جوخة بانتقالاته عبر الأزمنة، تارة أضحك وتارة أتعجب وتارة أكتشف، إذ بين صفحات الرواية ستتعرّف على أغوار المجتمع العُماني بكل طقوسه وعاداته وأطيافه، التاجر والفقير، العبد والحر، البنت والولد، الشباب والشيوخ ... إلخ، كلًا له مقعد بروايتها دونما ملل أو رتابة، وذلك يعود لطريقة السرد التي انتهجتها الكاتبة، إذ ينقسم السرد إلى قسمين، سرد بضمير الغائب الذي يظهر كراوي عليم يروي مظاهر وحالات بعض شخصيات الرواية، وسرد بضمير المُتكلم بطريقة تقنية تيار الوعي، إذ تسرد الشخصيات في بعض الفصول ملامح من أحداث قصصهم المتداخلة مُنذ أربعينيات القرن الماضي ومرحلة الاستعمار البريطاني حتى عصر النهضة ونشوء سلطنة عُمان كدولة مستقلة.
تناولت الرواية ثلاثة عوالم على رأسها التجارة بالعبيد الذين كانوا يُجلبون من بلوشستان وشرق أفريقيا قُبيل النهضة في عُمان وكيفيه التعامل معهم، وحياة القرية بعاداتها وتقاليدها والحالة المعيشية لعوائل عدة بتباين المستوى الثقافي والاجتماعي لكل منها والذي نتج عنه طبقية مقيتة، وصولًا لحياة التمدن الحديثة ونشوء السلطنة وتأثير رواسب الماضي على الشخصيات.
الرواية بمثابة عرض سريع موجز حول تاريخ دولة عُمان الاجتماعي والسياسي بسرد حيوي متداخل يدفع القارئ لمواصلة التعرّف على ذلك العالم المغمور والذي بدا لي بأنه يتسم بالتميز.
** **
- إشراق الروقي