د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
رأى الباحث في الفصل الأول للنظريّة النحوية جملة من الملامح تحدّد اتجاه معالجة القدماء قضايا الحرف، وهي ملامح نظريّة تتضافر في بناء معالم الحرف في التراث النحويّ العربي، منها التجريد الذي يفسره بقوله «إذ إنّهم قد جعلوا البناء النظريّ لما شاع واطّرد من هذه الوقائع، ثم محاولة ضبط ما ندَّ عنه من الوقائع اللغويّة، وردِّهِ إلى هذا البناء النظريّ بالاتّكاء على الجانب العقليّ التجريديّ كما نجده في مناقشتهم قضايا تعدّي الأفعال بحروف الجرّ، أو ضبطهم بنية الحرف الشكليّة». وأما عندي فالتجريد من لوازم التنظير والتقعيد للظاهرة اللغويّة، صوتًا أو صرفًا أو تركيبًا، فعلى الرغم من تعدد أشكال نطق الصوت جعلوا له رمزًا واحدًا، فرمز الألف واحد في ترقيقها أو تفخيمها أو إمالتها، وانتخبوا كلمة تعبر عن بنية الكلمة الصرفية التي تشارك بها غيرها، وهو ما يسمى الميزان الصرفي، ونرى كيف ردّد النحويون جملة (ضرب زيد عمرًا)؛ كأنها الميزان التركيبي للجملة الفعلية، وللحروف دلالات وظيفية عرفت من جمهرة استعمالهم وفسر ما خالف هذا بالتضمين أو استعمال حرف بمعنى حرف آخر.
ومن هذه الملامح أنّ الحروف ذات الوظيفة العامة المشتركة تختلف في قربها وبعدها عن الاتصاف بتحقيق هذه الوظيفة ولذا سموا أقربها وأوفاها بذلك (أمَّ الباب)، أي أمًّا للمجموعة الحرفية، كما سموا (كان) أمًّا للأفعال الناسخة، ومن هذه الملامح القياس العقلي (قياس الشبه) في الظاهرة اللغويّة، كتفسيرهم نصب (إنَّ) الاسم ورفع الخبر بمشابهتها الأفعال مبنًى ومعنًى.
وثمة بعض المؤثّرات في تكوين الملامح النظريّة للحرف في التراث النحويّ العربي كعلم المنطق والفلسفة، ونجد من ذلك تفسير بعض قضايا الحرف بالحمل على النقيض؛ كذلك الأثر المنطقي في النظر إلى الحرف وموقعه في العمل ضمن أقسام الكلم الثلاثة، ومن المؤثرات علم الكلام الذي نجد أثره في التأطير النظريّ لعمل الحروف، ومنها الفقه وبخاصة المذهب الظاهريّ.
أما المحدثون فوقف الباحث القارئَ على المحدّدات النظريّة الموجّهة لهم وفاق دراساتهم المختلفة، فالدراسات المصنّفة ضمن سياق عصر النهضة فظهر فيها استشكال المعايير التراثيّة المُعتمدة في تصنيف الأدوات النحوية المؤدية للمعاني، وكانت الدعوة إلى الانطلاق من واقع اللغة في وضع القواعد، وأما الدراسات المتأثّرة بالفرضيّات السائدة في اللسانيّات التاريخيّة فبين أصداءها في قراءات المحدثين، وأظهر اعتماد النموذج التاريخي أداة تفسيرٍ وترجيحٍ في دراسة الظاهرة اللغوية، ومنه التفسير التطوّري للظاهرة اللغوية والتفسير الزمني لها، ثم الانحياز إلى مبدأ الربط بين اللغة والعرق في تفسير الظاهرة اللغوية وبين الإشكالات المنهجية في اللسانيات التاريخية، وأما الدراسات المتأثّرة بالفرضيّات السائدة في اللسانيّات البنيوية فوقف على أصدائها في قراءات المحدثين لقضايا الحرف والنّزوع إلى الوصف المُتّكئ على الجانب الاستعمالي للظاهرة وتنكّب الرؤية النظريّة التفسيريّة، وبين ما آل إليه هذا من القطيعة مع النحو العربي التراثي بوصفه معياريًّا قائمًا على المنطق والفلسفة، وأبرز ما أثير أقسام الكلم الذي سعت هذه الدراسات إلى تجاوزه بزيادة أصناف قادرة على ضبط الوحدات اللغوية المُشكِلة، ولم تلتفت هذه الدراسات إلى أن أقسام الكلم في النحو أكثر من ثلاثة؛ ولكن القسمة النحوية قسمة شجرية؛ فالاسم أقسام والفعل أقسام. وأما الدراسات المتأثّرة بالفرضيّات السائدة في اللسانيّات التوليديّة فكان فيها مراجعات لمبادئ اللسانيات البنيوية وتعديلها وبيان للإشكالات المعرفية فيها، وكذلك الإشكالات الإجرائيّة فيها، ثم بين التحوّل المعرفيّ مع الاتّجاه التوليديّ في ضبط مفهوم علم اللسانيّات، ووقف على البحوث العربيّة التي تجاوزت المسلّمات البنيويّة في قراءتها للتراث ممثِّلًا بالجهود التي قدّمها عبدالقادر الفاسي الفهري فأبرز نزوعه إلى النموذج التحويليّ في دراسة الرتبة في العربية كما أبرز نزوع مازن الوعر إلى هذا النموذج في دراسة نظام اللغة العربية. وأما الدراسات المتأثّرة بالفرضيّات السائدة في النحو الوظيفي، فوقفنا على مشروع أحمد المتوكّل وموضوع علم اللسانيّات في فرضيّات النحو الوظيفي، وأثره في تناولهم لقضايا الحرف، والاتّكاء على الجانب الوظيفيّ في تفسير الجوانب التركيبيّة والاستدلال بالكلّيات اللغويّة في تفسير ظاهرة العطف.