رمضان جريدي العنزي
لنا في الجنائز اليومية الكثيرة التي نصلي عليها موعظة وعبرة وعظة ودرس، بأن الحياة قصيرة جداً وإن طالت وتجملت وزانت، وبأن نهاية الإنسان حقيقة جلية لا مناص عنها، وبأن الموت حتمي لا محالة آت، والفناء قادم، لهذا علينا أن نقف مع النفس وقفة جادة، ومراجعة جذرية، وأن نعيد للعقل صوابه، وللأقدام جادتها، وأن ننهى النفس عن الهوى، ونشد لجام الجموح، حتى نزيل ما تراكم على القلب من صدأ، ومن النفس الشجن، رأفة وحناناً وشفقة بالحال والمصير والمآل، إن الجنائز اليومية التي نصلي عليها، تجعل النفس تواقة للمسارعة في التدبر والتأمل والتعقل، وأن نعيد للنفس الضبط والربط والميزان، إن الإنسان معني بتفعيل العقل، وأخذ العبر، وفهم الدرس وحفظه، فأعمال الإنسان عند الله محفوظة، ومواقفه مسجلة، وعلى ضوء ذلك يكون الثواب والعقاب، قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ)، إن الإنسان معني بتدبر وإدراك هاتين الآيتين الكريمتين، فلن يضيع في ميزان العدل الإلهي أي ذرة، خيراً كانت، أم شراً، إن الإنسان الواعي العاقل المدرك، يجعل من الموت اللحظوي، والمشاهدات اليومية للجنانز، ملهماً له وباعثًا على تكثيف التدبر وأخذ العبرة وتصحيح المسار، نحو مدارات البياض والنقاء والصلاح، وبعيدًا عن شوائب الخطايا والآثام، والانطلاق نحو فضاءات البر والنفع والإحسان، ليشمل البائسين والمحتاجين والأرامل والأيتام والمصطلين بنيران الفاقة والحاجة والحرمان، فضلاً عن المشاريع الإنسانية والاجتماعية الأخرى، والسعي بالخير مع الإنسان، إن التفاعل الحار مع هؤلاء وغيرهم، نتيجته باهرة، وجزاؤه عظيم من رب الأرباب، ومكون الأكوان، وإذا نهاك الشيطان عن ممارسة الخير، فأكسر شوكته بالإقدام على ممارسة الخير لا بالكف عنه، لكي تنتصر عليه، وعلى النفس الأمارة بالسوء، إن البعد عن الهوى، ونزعات الشر، يجب تفعيلها والعمل بها، إن جانب الخير يجب أن يطغى على جانب الشر، والمودة على جانب الكراهية، والقرب على جانب النفور، والعطاء على جانب الإمساك، والوصل على جانب الهجر، واليسر على جانب العسر، والإيثار على جانب الأنانية، والحب على جانب البغض، والفأل الحسن على جانب التطير، والوئام على جانب الحسد، إن الإنسان لا يدري متى يباغته الموت، وعليه يجب أن يكون على أهبة الاستعداد، لأنه حين يجىء لا يستطيع أحد دفعه، أو الرب منه، أو الاختباء، إن الأيام وإن طالت قصيرة، والموت درس بليغ، إن الرابح الأكبر هو من أتعظ بالراحلين الذين كانوا يعيشون بين ظهرانيه، والخاسر هو من تمر عليه الدروس والعبر والقصص والأحداث وجنائز الموتى، وهو في غيه يدثر ويتزمل ويغمض عينيه، لا يتعظ ولا يعي ولا يبالي، ولا يحسب للموت حسابًا، وكما قال البارودي:
إن الحياة لثوب سوف تخلعه
وكل ثوب إذا ما رث ينخلع