مها محمد الشريف
العلم يدعم الصناعات الإبداعية وعائداتها الاقتصادية ويمهد الطرق للتطور، وفي هذا الجانب، يكون الاستثمار في التعليم والموارد البشرية قائماً على قفزات تقنية مطورة تعزز الابتكار، ويبدو أن من أهم فوائد تقلبات أسعار النفط طرح الخيارات الأخرى كتنويع مصادر الدخل وإنشاء الصندوق السيادي للاستثمار الخارجي وتنمية التعليم، فالعقل والمنطق يقولان إن التعليم هو الأهم في المنظومة المتكاملة والمشاريع الاستثمارية.
من هنا، نسلط الضوء على دولة تمتلك اقتصادا قويا وسوقا ترتيبه الخامس عشر عالميًا وفق الناتج المحلي الإجمالي والثاني عشر وفق تعادل القدرة الشرائية، وهذا بالضبط ما ينطبق على كوريا الجنوبية التي تعد ضمن مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم، من حيث تصنيفها ضمن البلدان المتقدمة والأسواق عالية الدخل، وهي عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
لقد اعتمدت على التعليم وحققت غاياته وأهدافه، وأوجدت روحا علمية متقدة طامحة في وسط اجتماعي مشجع وبيئة حاضنة لكي تصنع حضارة حديثة كالحضارات التي سبقتها، ولو أخذنا كوريا الجنوبية كمثال نموذجي للتعليم لوجدنا أن واقع كوريا سابقاً كان سلسلة لا نهائية من الحروب مع دول الجوار في القارة الآسيوية على مدى التاريخ، آخرها كان الغزو الياباني لكوريا في عام 1910، وقد حاولت اليابان طمس هوية كوريا والسيطرة المطلقة عليها إلى أن هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945 وأصبحت كوريا ضمن غنائم الحرب التي تقاسمتها دول التحالف آنذاك وغيرها.
لم تنته المعاناة عند هذا الحد، بل كان قدر هذه الدولة أن تدخل في الصراع من جديد من خلال سيطرة الاتحاد السوفيتي على نصفها الشمالي وسيطرة أميركا على نصفها الجنوبي، فاندلعت الحرب الأهلية الكورية بين الجزء الشمالي والجزء الجنوبي في عام 1950 واستمرت ثلاثة أعوام طاحنة ومهلكة للكوريتين، ثم انتهت بالهدنة وتأسيس منطقة منزوعة السلاح، ثم الانقسام الرسمي بينهما.
مع هذا التاريخ الكئيب في الذاكرة، وهذه الظروف التي جعلتها أقل دول العالم في متوسط دخل الفرد حيث كان في عام 1962 سبعة وثمانين دولارا فقط، وخلال 50 سنة أصبح دخل الفرد الكوري أكثر من عشرين ألف دولار، والسر الذي يتفق الكوريون عليه في نهضتهم الحاضرة هو الاهتمام بالتعليم وتوسع دائرته ونطاق قدراته وتخفيض معدل التوتر في مناطق يغلب عليها النزاعات.
في الوقت الذي رفعت فيه كوريا شعار التنمية أولا، وضعت مقاليد النجاح في بناء سياسات للتخطيط الاقتصادي، ومنها خطة اقتصادية خمسية تبدأ من عام 1962، رغم المشاكل الاقتصادية الصعبة المعرقلة لسير هذه التنمية، ولكن ساعدها اكتساب المعارف والعلوم ابتعاث الأيدي العاملة إلى ألمانيا الغربية والاستفادة من نهضة التعليم والتنمية والصناعة، ووفقا للإحصائيات تعتبر كوريا الجنوبية الأكثر إنفاقا على التعليم، حيث تخصص من إجمالي ناتجها 7.1 في المئة تحت بند التعليم، فقد ذكرت التقارير أن هناك أكثر من 200 جامعة تخدم سكان كوريا الذين لا يتجاوز عددهم خمسين مليون نسمة.
ففي كوريا الجنوبية نظام حديث يعزز القدرات الأساسية، ويفسر دواعي النجاح ويختصر الطرق إلى التطوير النوعي للتربية العلمية الحديثة، ولا نخطئ التقدير إذا أوجدنا المشاركة في عملية التنمية من خلال بناء الإنسان الواعي المبتكر، وتهيئته لسوق العمل وبهذا التقدير لابد أن يظهر النظام التربوي بكل قوة ليرفع مكانة التربية والتعليم، فيهتم بجميع المراحل ويبدأ بتربية الأطفال وبناء قدراتهم الجسدية والعقلية وتنمية لغتهم وذكائهم والبحث عن أسباب تجعل الإنسان شامخاً بكل هيبته في هذه الحضارة المتوالدة من تغيرات العصر، ليكون ركيزة أساسية للتطور.
في تلك الأثناء، كانت توجهات وتحركات استراتيجية الاقتصاد القائم على الصادرات مع بعض التعديلات التكتيكية وخطط تمهيدية لهذه الانطلاقة الكبيرة للأسواق العالمية، بعدما اعتبروا التعليم أولى ركائز تطور الشعوب وبقدر ما رفعوا من إمكاناته وجودة مخرجاته استطاعوا المنافسة والنهوض باقتصادهم ليكون لديهم مشروع قومي انتهى العمل منه عام 1973.
ورغم أن كوريا بدأت متأخرة عن الدول المتقدمة في مجال صناعات الحديد والصلب بنصف قرن، إلا أن عام 2009 شهد تقدم كوريا الجنوبية المرتبة الرابعة عالميا في إنتاج الصلب فكان التطور واعداً للغاية، وساهم التقدم الكبير في تعزيز صناعة السيارات والمركبات ومجال الصناعات التكنولوجية والصناعات الثقيلة، لتنتشر أجهزة الكمبيوتر والمحمول الكورية في كل منازل وشركات العالم، كل ذلك بفضل الهدف الأساسي للمشروع الاقتصادي للتصدير.
إن السؤال الذي يجب طرحه هنا، طالما شاهدنا هذه التجربة على أرض الواقع وتحتفظ بها سجلات التاريخ، لماذا لا تطبقها مؤسسات الدولة سابقا، علماً أن حجم الإنفاق كبير على التعليم بلغ بالمتوسط حوالي 25 في المئة من ميزانيات الدولة في السنوات العشر الماضية؟، إذ لا بد أن تنعكس تلك المصروفات على دور التعليم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والقدرة الإنتاجية وكفاءة الفرد، وهذا ما نلمسه الآن من تقدم وخطط تنموية تعني بالموارد البشرية وفق رؤية 2030.